السلفیه

(وقت القراءة: 5 - 10 دقائق)

السلف فی اللغة: کلّ من تقدّمک من آبائک وذوی قرابتک، وربّما یستعمل جمعاً للسالف بمعنى: الماضی.
وفی المصطلح: عبارة عن جماعة الصحابة والتابعین وتابعی التابعین؛ حیث تُعدُّ اجتهاداتهم وآراؤهم فی الأُصول والفروع أسوة للآخرین، ولا یجوز الخروج عنها قید شعرة، ویجب التمسّک بها والدعوة إلیها على أنّها مظهر الدین الحق، وعنوان العقیدة الصحیحة، معتمداً على ما رواه الشیخان من روایة عبد الله بن مسعود: (خیر الناس قرنی، ثمّ الّذین یلُونهم، ثمّ الّذین یلونهم، ثمّ یجیء أقوام تسبق شهادة أحدهم یمینه، ویمینه شهادته).(1)
ولا شک أنّ المراد من الخیریّة؛ هو خیریّة أهل القرون الثلاثة من المسلمین؛ لا نفس الزمان، فالّذین یمثّلون الحلقة الأُولى من تلک السلسلة هی حلقة الصحابة، والحلقة الثانیة تمثّل التابعین الّذین لم یستضیئوا بنور النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) مباشرة، ولکن غمرهم ضیاء النبوّة باتّباعهم لأصحاب رسول الله (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) والاهتداء بهدهم.
ـــــــــــــــــ
(1) السلفیّة، الدکتور محمد سعید رمضان البوطی، ص11.

وأمّا الحلقة الثالثة فهی تمثّل تابعی التابعین، وبعد انتهاء هذه الحلقات الثلاث ظهرت البدع ظهوراً فاشیاً، وتتابعت الفِرق الضالّة الّتی تشذ عن صراط تلک العصور الثلاثة، کلّ فِرقة تشقُّ لنفسها من ذلک الطرف العریض سبیلاً متعرجة تقف على فمه وتدعو إلیه، مخالفة بذلک قول الله عز وجل: (وَأَنّ هذَا صِرَاطِی مُسْتَقِیماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَتَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِکُمْ عَن سَبِیلِهِ ذلِکُمْ وَصّاکُم بِهِ لَعَلّکُمْ تَتّقُونَ)(1).
فهذا هو السلف، والسلفیّة عبارة عن الخَلف الّذین یقتدون بهم فی الأُصول والفروع، ولا یخرجون عمّا رأوا من الفعل والترک قید شعرة.
والسلفیة بهذا المعنى تعتمد على روایة عبد الله بن مسعود، فلنتناولها بالبحث والتمحیص، فنقول:
القرن فی اللغة أهل زمان واحد، المقدار الّذی یقترن فیه أهل ذلک الزمان فی أعمالهم وأحوالهم، یقال: هو على قرنی، أی على سنّی وعمری.
وأمّا إطلاقه على مائة سنة، فاصطلاح جدید، لا یُحمل علیه الکتاب والسنّة.
وعلى ضوء ذلک، فلا محیص عن حمل الحدیث على الصحابة وتابعیهم وتابعی تابعیهم.
ولکن ابن تیمیّة وأتباعه راحوا یحدّدون السلفیة بثلاث قرون، أی 300 سنة، فکلّ ما حدث فی هذه الحقبة من الزمان، فهو مظهر دین الحق، وعنوان العقیدة الصحیحة.
ـــــــــــــــ
(1) الأنعام: 153.

وبذلک یبرّرون أعمالهم فی تحریم البناء على قبور الأولیاء؛ بأنّه حدثَ بعد القرون الثلاثة.
وربّما یؤیّد الحدیث بما رُوی عن النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم)، إنّه قال:
((وإنّ بنی إسرائیل تفرّقت على اثنتین وسبعین ملّة، وتفترق أُمّتی على ثلاث وسبعین ملّة، کلّهم فی النار إلاّ ملّة واحدة، قالوا: من هی یا رسول الله؟ قال: ما أنا علیه وأصحابی)).(1)
أقول: أوّلاً: لا یمکن الرکون إلى هذا المؤیِّد؛ لأنّ النصوص هنا مختلفة.
روى الحاکم(2) وأبو داود(3) وابن ماجة(4) بأنّ النبیّ قال: إلاّ واحدة وهی الجماعة، أو قال: الإسلام جماعتهم.
وروى الحاکم أیضاً أنّ النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) حدّد أعظم الفِرق هلاکاً، وقال: ((ستفترق أُمّتی على بضع وسبعین فرقة، أعظمها فرقة قوم یقیسون الأُمور برأیهم، فیحرّمون الحلال ویحلّلون الحرام)). وقال: هذا حدیث صحیح على شرط الشیخین ولم یخرجاه.(5)
وروى صاحب الروضات، عن کتاب الجمع بین التفاسیر: إنّ النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) قال: ((هم أنا وشیعتی)).(6)
ــــــــــــــــــ
(1) سنن الترمذی: 5/26، کتاب الإیمان، الحدیث 2641، ونقله الشهرستانی فی الملل والنحل: 1/13.
(2) المستدرک: 1/128.
(3) سنن أبی داود: 4/198، کتاب السنّة.
(4) سنن ابن ماجة: 2/479، باب افتراق الأُمم.
(5) المستدرک: 4/430.
(6) روضات الجنان: 508، الطبعة الحجریّة.

وعلى هذا لا یمکن الاعتماد على هذا النقل.
وثانیاً: إنّ المعیار الوحید للهلاک والنجاة هو شخص النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم)، وأمّا أصحابه فلا یمکن أن یکونوا معیاراً للهدایة والنجاة، إلاّ بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم)، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قلیلاً، فلا یکون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.
وعلى ذلک فعطف (وأصحابی) على النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) لا یخلو من غرابة!!
***
هذا ما یرجع إلى دراسة الروایة من حیث اللفظ، وأمّا دراستها من حیث المعنى، فنقول:
أوّلاً: إنّ إضفاء القداسة على جماعة خاصة، على نحو یکون رأیهم فی الأُصول والفروع حجة لغیرهم، ولا یجوز الخروج عنه قید شعرة، بمثابة حجیّة قولهم فی مجالی الأفعال والتروک، مع أنّه لم یدلّ دلیل علیها، غایة الأمر أنّ قول الصحابی أو التابعی حجّة لهما، لا لغیرهما.
وبعبارة جامعة: قول الثقة إذا نقله عن النبیّ الصادع بالحق حجة، وإلاّ فقول الصحابی فضلاً عن التابعی بما هو هو لیس بحجة، سواء أکان من القرون الثلاثة الأُولى أم ما بعدها.
وثمّة کلمة قیّمة للإمام الشوکانی، نذکرها بنصها:
والحق إنّه ـ رأی الصحابی ـ لیس بحجة، فإنّ الله لم یبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبیّنا محمّداً (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم)، ولیس لنا إلاّ رسول واحد وکتاب واحد، وجمیع الأُمّة مأمورة

باتّباع کتابه وسنّة نبیه، ولا فرق بین الصحابة ومن بعدهم فی ذلک، فکلّهم مکلّفون بالتکالیف الشرعیة وباتّباع الکتاب والسنّة، فمن قال: إنّها تقوم الحجة فی دین الله عزّ وجلّ بغیر کتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) وما یرجع إلیها، فقد قال فی دین الله بما لا یثبت.(1)
ثانیاً: إنّ الخیریّة الّتی أخبر عنها الرسول حسب الروایة، هل یراد منها أنّها ثابتة لجمیع أفراد هذه القرون الثلاثة، ممّن یُظلّلهم الإسلام فی مشارق الأرض ومغاربها، أو أنّها ثابتة لمجموع المسلمین فی تلک العصور الثلاثة؟
أمّا الأفراد فقد لا تنطبق الخیریة على بعضهم، قال ابن حجر:
هل هذه الأفضلیّة بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟، محل بحث، وإلى الثانی نحا الجمهور، والأوّل قول ابن عبد البر.
وقال أیضاً: واتّفقوا أنّ آخر من کان من أتباع التابعین؛ ممّن یقبل قوله، مَن عاش حدود 220هـ، وفی هذا الوقت ظهرت البدع ظهوراً فاشیاً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهل العلم لیقولوا بخلق القرآن، وتغیّرت الأحوال تغیّراً شدیداً لم یزل فی نقص إلى الآن، وظهر قوله (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم): ((ثمّ یفشو الکذب ظهوراً بیّناً، حتّى یشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات)).(2)
فعلى ضوء ما ذکره، آخر ما بقی من تابعی التابعین أصل انتهاء الخیریّة، وبدأ الشرِّ بعده.
ـــــــــــــــــ
(1) إرشاد الفحول: 214.
(2) فتح الباری: 7/4.

أمّا الوجه الأوّل، أی کون الخیریّة لأفراد هذه الأُمة قاطبة، فدون إثباتها خرط القتاد؛ إذ کیف یعقل خیریّة کلِّ من عاش بعد رحیل النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) إلى نهایة عام 220هـ، وقد ظهر فیهم الفساد ودبّت فیهم نار الفتنة والشقاق!!
ومن استقرأ تاریخ الإسلام وتاریخ العقائد، یقف على أنّ تلک البرهة من الزمان من أحلک العصور ظلمة، ولنستعرض النماذج التالیة:
1. قاد جماعة من الصحابة والتابعین حملة شعواء ضد عثمان، حتّى انتهى الأمر إلى الإطاحة به وقتله، وقد بلغ من غضب الثوّار على عثمان بمکان أنّ الإمام أمیر المؤمنین وأبناءه لم یتمکنّوا من صدّهم عنه، فهل الخیر کان إلى جانب الثوّار أو إلى جانب عثمان؟!
2. هذا هو طلحة والزبیر قد جهّزا جیشاً جرّاراً لحرب الإمام علیّ (علیه السّلام)، وأعانتهما أُمّ المؤمنین عائشة، فقُتل جرّاء ذلک خلق کثیر عند هجومهما على البصرة، وعند قتالهما للإمام (علیه السّلام)، فهل الخیر کان إلى جانب جیش الإمام أو إلى جانب طلحة والزبیر؟!
3. کما صنع معاویة نظیر ذلک؛ حیث حارب الإمام فی صفِّین، وکان مع علیّ (علیه السّلام) من البدریّین جماعة کثیرة، حاربوا جیش الشام وعلى رأسهم معاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص، فهل الخیر کان إلى جانب الإمام وجیشه أو إلى جانب جیش معاویة، وقد ذهب ضحیّة تلک الحرب سبعون ألفاً(1) من العراقیّین والشامیّین؟!
ــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب: 2/404.

وهل یمکن لأحد أن یصف الفئة الباغیة بالخیر؟!؛ وقد قال النبی (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) مخاطباً عمّار: (إنّک لن تموت حتّى تقتلک الفئة الباغیة الناکبة عن الحق، وإنّ آخر زادک من الدنیا شربة لبن).(1)
4. إنّ معاویة أوّل من بدّل نظام الحکم الإسلامی من الشورى إلى النظام الملکی الّذی ساد بین الأُمویّین ما یقرب من ثمانین عاماً، فهل تعدّ تلک العصور الدمویّة الملیئة بالقتل وسفک الدماء خیر القرون؟!
نقل صاحب المنار: إنّه قال أحد علماء الألمان فی الآستانة لبعض المسلمین، وفیهم أحد شرفاء مکّة: إنّه ینبغی لنا أن نُقیم تمثالاً من الذهب لمعاویة بن أبی سفیان فی میدان کذا فی عاصمتنا (برلین)، قیل له: لماذا؟، قال: لأنّه هو الّذی حوّل نظام الحکم الإسلامی عن قاعدته الدیمقراطیّة إلى عصبیّة الغلب (الملک لمن غلب)، ولو لا ذلک لعمّ الإسلام العالم کلّه، ولکنّا نحن الألمان وسائر شعوب أُوربا عرباً مسلمین.(2)
وبکلمة جامعة، إنّا إذا استعرضنا العهد الأُمویّ الّذی تسلّم فیه الأُمویّون منصّة الخلافة، ابتداءً من معاویة بن أبی سفیان، فیزید بن معاویة، فمروان بن الحکم، ثم أبنائه الأربعة، فهل یمکن أن نعدَّ هذه الحقبة من التاریخ خیر القرون، وقد قُتل فیها سبط النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم)؛ الحسین بن علیّ (علیه السّلام)، وأُبیحت دماء أهل المدینة وأعراض نسائهم، وحوصرت مکّة وهتکت حرمتها على ید الحجاج بن یوسف الثقفی، واستُعبد أبناء المهاجرین والأنصار، ونُقش على أیدیهم کما یُنْقش على
ــــــــــــــــــ
(1) الکامل فی التاریخ: 3/157.
(2) تفسیر المنار: 11/269، فی تفسیر سورة یونس.

أیدی غلمان الروم، إلى غیر ذلک من الجرائم البشعة الّتی یندى لها جبین الإنسانیّة؟!
فإذا کان هذا حال الأفراد، فیعلم منه حال المجموع، فکیف یمکن أن یقال: إنّ المجموع فی هذه القرون الثلاثة أفضل من بقیة مجامیع سائر القرون؟!، ولا یقول ذلک إلاّ من غضَّ الطرف عن قراءة التاریخ والحوادث المریرة الّتی جرت فی العصور الأُولى.
وثالثاً: إنّ ابن حجر یذکر: بأنّ البدع ظهرت بعد (220) سنة، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رؤوسها... الخ، ولکنّه لم یقرأ تاریخ العقائد، فإنّ قسماً کبیراً من المناهج الثلاثة، سواء أصحّت أم لم تصحّ، قد وُضِعت لبناتها الأُولى فی هذه الحقبة من الزمان.
فهذه هی المحکّمة الّذین یکفّرون عامّة المسلمین ظهرت فی مختتم العقد الرابع من القرن الأوّل فی مسألة التحکیم، ودامت حروب الخوارج من عصر علیّ إلى قرون متمادیة، وزهقت خلالها نفوس کثیرة.
ثم ظهرت المرجئة فی العقد التاسع من القرن الأوّل، وهم الذین یقدّمون الإیمان ویؤخّرون العمل، وکانت عقیدتهم ردّ فعل لما علیه المحکّمة. لأنّهم کانوا یکفّرون مرتکب الکبیرة، فالمرجئة تتسامح فی کل ذلک، وتعدّ الجمیع من أهل النجاة والفلاح، لأنّ المهم هو الإیمان دون العمل.
ثمّ ظهر الاعتزال عام 105هـ على ید واصل بن عطاء (المتوفّى عام 131هـ) وزمیله عبید بن عمرو (المتوفّى 143هـ).

وفضلاً عن ذلک فقد ظهرت الزنادقة والملاحدة فی أواخر العهد الأُمویّ وبدایة العهد العباسیّ.
ورابعاً: السلفیّة بهذا المعنى تضفی الحجیّة الشرعیّة لأقوال السلف وأفعالهم، وإنّها کاشفة عن قول النبیّ وفعله، والحجیّة مسألة أُصولیّة لا تَثبت إلاّ بدلیل قطعی، وما رُوی فی المقام من أخبار الآحاد، وإن نُقل عن عمران بن حصین، وعبد الله بن مسعود(1)، إلاّ أنّها لا تخرج عن أخبار الآحاد.
ــــــــــــــ
(1) فتح الباری: 7/4 ـ 6.


طباعة   البريد الإلكتروني