حكم الامام المهدي بحكم داود

(وقت القراءة: 3 - 6 دقائق)

يشنع خصوم الشيعة على الشيعة بأن مهديهم - بحسب دلالة روايات الشيعة - سيحكم بحكم ال داود إذا ظهر، وأنه لن يحكم بشريعة نبينا محمد الناسخة للشرائع السابقة؟! وهذا كلام باطل مردود، والروايات التي ورد فيها أن الإمام المهدي سيحكم بحكم داود يراد بها أن الإمام المهدي سيحكم بنفس طريقة النبي داود في الحكم، فإن النبي داود كان يحكم بعلمه، ولا يعول على الشهود والأيمان، والإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف كذلك، سيحكم بعلمه في كل القضايا والوقائع، ولن يحكم بالأيمان والشهود، ولا يراد بما جاء في تلك الروايات أن الإمام المهدي سيحكم بشريعة النبي داود.

وسيترك العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، فإن هذا غير مراد جزما. قال الشيخ محمد باقر المجلسي قدس سره في بحار الأنوار: ثم اعلم أن الظاهر من الأخبار أن القائم إذا ظهر يحكم بما يعلم في الواقعة لا بالبينة، وأما من تقدمه من الأئمة عليهم السلام فقد كانوا يحكمون بالظاهر، وقد كانوا يظهرون ما يعلمون من باطن الأمر بالحيل كما كان أمير المؤمنين يفعله في كثير من الموارد، وقال الشيخ المفيد في كتاب المسائل: للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى، وقد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور، فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى، ويجوز أن يدله الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين، فلا تغيب عنه حقيقة الحال، والأمور في هذا الباب متعلقة بالألطاف والمصالح التي لا يعلمها على كل حال إلا الله عز وجل، ولأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال: فمنهم من يزعم أن أحكام الأئمة على الظواهر دون ما يعلمونه على كل حال، ومنهم من يزعم أن أحكامهم إنما هي على البواطن دون الظواهر التي يجوز فيها الخلاف، ومنهم من يذهب إلى ما اخترته أنا من المقال1.

وقال في مراة العقول: وهذا الاختلاف في سيرهم عليهم السلام ليس من قبيل النسخ حتى يرد: «لا نسخ بعد نبينا»، بل إما باعتبار التقية في بعضها، أو اختلاف الأوضاع والأحوال في الأزمان، فإنه يمكن أن يكون النبي أمر الإمام بالحكم بالواقع إذا لم يصر سببا لتفرق الناس ورجوعهم عن الحق، وبالحكم بالظاهر إذا صار سببا لذلك...2.

فإذا تبين ذلك نقول: إن وظيفة الإمام المهدي هي ملء الأرض قسطا وعدلا بعد أن تملأ ظلما وجورا، ومن الطبيعي أن يحكم الإمام في كل قضية بما يوافق الواقع؛

لترجع الحقوق إلى أصحابها، وهذا يقتضي أن يحكم بعلمه الذي يلهمه الله به، لا بالظاهر الذي قد يصيب الواقع وقد يخطئه، فتفوت كثير من الحقوق في حال عدم إصابته للواقع، وهذا هو المراد بحكم النبي داود، فإن داود كان يحكم في كل قضية بما يلهمه الله سبحانه من غير حاجة إلى الرجوع إلى البينات والأيمان. وعمل الحاكم بعلمه من دون الأخذ بالبينات والأيمان مسألة فقهية اختلف العلماء فيها، فجوزها قوم ومنعها اخرون. قال ابن قدامة في المغني: (مسألة) قال: (ولا يحكم الحاكم بعلمه) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها. هذا قول شريح، والشعبي، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى: يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف، وأبي ثور، والقول الثاني للشافعي، واختيار المزني؛ لأن النبي لما قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»، فحكم لها من غير بينة ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها.

إلى أن قال: ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يغلبان على الظن، فما تحققه وقطع به كان أولى؛ ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه3. وقال ابن رشد: واختلف هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار، أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار، وبه قال أحمد وشريح، وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة: للقاضي أن يقضي بعلمه. ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعي، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر. إلى أن قال: وأما عمدة من أجاز ذلك، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة بن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» دون أن يسمع قول خصمها. وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه، فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين4. وقال ابن زهرة الحلبي قدس سره: ويجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير ذلك، وسواء في ذلك ما علمه في حال الولاية أو قبلها، بدليل إجماع الطائفة.

وأيضا قوله تعالى: ﴿ ... وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ... ﴾ 5، وقوله: ﴿ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ... ﴾ 6، ومن حكم بعلمه فقد حكم بالحق والعدل، وأيضا قوله تعالى: ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ... ﴾ 7، وقوله: ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... ﴾ 8، ومن علمه الإمام أو الحاكم زانيا أو سارقا وجب عليه امتثال الأمر، وإذا ثبت ذلك في الحد ثبت في الأموال؛ لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين، وأيضا فلو لم يقض الحاكم بعلمه لأدى إما إلى فسقه من حيث منع الحق الذي يعلمه، أو إعطاء ما لم يعلم استحقاقه، وإما إلى إيقاف الحكم، والأول يقتضي فسخ ولايته وإبطال أحكامه مستقبلا، والثاني ينافي المقصود بها، وأيضا فإنما يحتاج إلى البينة ليغلب في الظن صدق المدعى، ولا شبهة في أن العلم بصدقه اكد من غلبة الظن، فإذا وجب الحكم مع الظن ذلك، فلأن يجب مع العلم به أولى وأحرى9. وقال العلامة الحلي قدس سره: ويحكم الحاكم بعلمه إماما كان أو غيره على الأقوى10.

والنتيجة أنه لا غضاضة على الإمام المهدي في أن يحكم في القضايا بعلمه الذي يلهمه الله به، فلا يسأل عن بينة أو يمين كما كان يفعل النبي داود في حكمه، ولا يعني ذلك أن الإمام سيعمل بشريعة داود، وسيترك شريعة نبينا محمد في الحكم كما يفتريه أعداء الشيعة هداهم الله11.

  1. بحار الأنوار 26/177.
  2. مراة العقول 4/301.
  3. المغني 11/401.
  4. بداية المجتهد.
  5. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الاية: 42، الصفحة: 115.
  6. القران الكريم: سورة ص (38)، الاية: 26، الصفحة: 454.
  7. القران الكريم: سورة النور (24)، الاية: 2، الصفحة: 350.
  8. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الاية: 38، الصفحة: 114.
  9. غنية النزوع 1/436.
  10. تحرير الأحكام 5/332.
  11. نقلا عن سماحة الشيخ علي ال محسن .

طباعة   البريد الإلكتروني