خصال الإمام محمد الباقر عليه السلام

(وقت القراءة: 5 - 9 دقائق)

لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة. ويجعله حجة بالغة على خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيّدة. وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره. وتعظيمه وتجليله. وإخلاص العبودية له والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله. فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً.
وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر عليه السلام الحميدة ، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام ، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها ، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها. أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة ، كلا .. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم ، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم ، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه ، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة ، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم ، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر عليه السلام.
وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها.
قال : ابن شهراشوب في المناقب : كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة ، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام ، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا ، وكان كثير الذكر ، كان يمشي وإنه ليذكر الله ويأكل الطعام وإنه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله ، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر ، ويأتي قول المفيد : وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله ، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف ، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه ، وكان إذا ضحك قال : « اللـهم لا تمقتني » . وقال الأبي في كتاب نثر الدرر : كان إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول : « سموهم بأحسن أسمائهم ». (1)
وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت : الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر. (2)
وكان من شدة خشوعه ما يذكره ( أفلح ) مولى أبي جعفر أنه قال : خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فقلت : بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً ، (3) فقال لي : « ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل الله تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً » ، قال ـ أفلح ـ ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه مـن سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائلاً : كان إذا ضحك قال : « اللهم لا تمقتني » . (4)
ويقول نجلُه الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف تبتل والده إلى الله : « كان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله. وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا الله إلاّ الله ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر ». (5)
ويقول الإمام الصادق عليه السلام : « إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي. وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللهم أنت ربي حقاً حقاً ، سجدت لك تعبداً ورقاً ، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي ، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم ». (6)
وكان عليه السلام شديد الحب لكتاب ربه ، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته ، حتى أن أبان بن ميمون القداح قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام : « إقرأ ». قلت : من أي شيء أقرا ؟. قال : « من السورة التاسعة ؟ » قلت : فجمعت ارتمسها فقال : « اقرأ من سورة يونس فقال .. قرأت ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ ) [ يونس : 26 ] قال : حسبك ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن ». (7)
وكان يستلهم من كتاب ربه معارف الدين حتى أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن ، هكذا يروي أبو الجارود قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله ». ثم قال : « حتى حديثه أن الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال » ، فقالوا يابن رسول الله وأين هذا من كتاب الله ؟ فقال : « إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ ) [ النساء : 114 ] وقال : ( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ) [ النساء : 5 ] وقال : ( لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) [ المائدة : 101 ]. (8)
وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله ، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقر عليه السلام كيف أصبحت : قال : « أصبحنا غرقى في النعمة ، موتورين بالذنوب ، يتحبب إلينا إلهنا بالنعم ، ونتمقت إليه بالمعاصي ، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا ». (9)
وكان عليه السلام شديد التسليم لأمر الله فقد روى بعض أصحابه أنه قال : كان قوم أتوا أبا جعفر عليه السلام فوافَوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ( قال ) فقالوا : والله لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نرى منه ما نكره ، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع ان نرى منك ما يغمنا ، فقال لهم : « إنا لنحب أن نعافى في من نحب ، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما يحب ». (10)
وكان عليه السلام لا يلويه عن العمل الصالح شيء. وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول : حضر أبو جعفر عليه السلام جنازة رجل من قريش وأنا معه ، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن ، قال : فلم تسكت فرجع عطاء قال : فقلت لأبي جعفر عليه السلام إن عطاء قد يرجع ، قال : ولِمَ ؟ قلت : صرخت هذه الصارخة فقال لها : لتسكتن أو لنرجعن ؟ فلم تسكت فرجع ، فقال : إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم ، قال : فلما صلى على الجنازة قال وليها لأبي جعفر : إرجع مأجوراً رحمك الله فإنك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال فقلت له : قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها ، فقال : إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع ، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك. (11)
أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب ، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول : كنت زميل أبي جعفر عليه السلام وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه ، وصافح ، قال : وكان إذا أنزل نزل قبلي ، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه ، فقلت يابن رسول الله إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا ، وإن فعل مرة لكثير ، فقال : « أما علمت ما في المصافحة ، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر والله ينظر إليهما حتى يفترقان ». (12)
وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً ، وكان يعفو عن السيئة أنى استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس ، فقد قال له نصراني يوماً : أنت بقر. قال : « لا أنا باقر ». قال : أنت ابن الطباخة ـ يريد تعييره بها ـ. قال : « تلك حرفتها ». قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية ؟ قال : « إن كنت صدقت غفر الله لها ، وإن كنت كذبت غفر الله لك » ، فانبهر النصراني بأخلاقه ، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديه. [13]
وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق ، وقد روي عن نجله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « إذا استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه ، قال : وإن كان أبي ـ الإمام الباقر عليه السلام ـ ليأمرهم فيقول كما أنتم ، فيأتي فينظر ، فإن كان ثقيلاً قال باسم الله ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً تنحى عنهم ». (14)
وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة ، حيث كان الأئمة عليهم السلام يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلى الله.
في ذلك يروي أبو عبد الله الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن اعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء يعظك ؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ على غلامين له أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أشهد لأعظنه ، فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً ، فقلت أصلحك الله يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال ؟ قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند وقال : « لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله » ، فقلت : يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني. (15)
وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه ، إلاّ أنه أحب أن يراه الله كاداً في سبيل إعاشة عياله.
ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق عليه السلام يقول : « أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمسك خيارهم. فقلت : يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء ؟ فقال : إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا ». (16)
هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة ، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد .. فسلام الله عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.

الهوامش
1. في رحاب أئمة أهل البيت سيرة الباقر : ( ص 6 ).
2. بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 289 ) نقلاً عن حلية الأولياء : ( ج 3 ص 180).
3. الظاهر خفضت والله العالم.
4. المصدر : ( ص 290 ).
5. المصدر : ( ص 297 ).
6. المصدر : ( ص 301 ).
7. المصدر : ( ص 303 ).
8. المصدر : ( ص 303 ).
9. المصدر : ( ص 304 ).
10. المصدر : ( ص 301 ).
11. المصدر : ( ص 301 ).
12. المصدر : ( ص 302 ).
13 المصدر : ( ص 289 ).
14 المصدر : ( ص 303 ).
15. المصدر : ( ص 287 ).
16. المصدر : ( ص 300 ).

مقتبس من كتاب الإمام محمد الباقر عليه السلام قدوة و أسوة


السيد محمد تقي المدرسي البريد الإلكتروني طباعة


طباعة   البريد الإلكتروني