أطروحة تجديد المنبر الحسيني بين الرفض والقبول

(وقت القراءة: 7 - 13 دقائق)

200704 210030

ممّا لا شكّ فيه: أنَّ المآتم الحسينيّة قوامها بالمنبر الحسيني الشريف، الذي يقوم بدور الإبكاء واستدرار الدمعة، بالإضافة إلى دور الوعظ وبيان المعارف الدينيّة الذي يشكّل عنصر المعرفة، وهو مصداقٌ واضحٌ لتذاكر علوم أهل البيت (عليهم السلام).

وقد ورد عن معتب مولى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول لداوود بن سرحان: «يا داوود، أبلغ مواليَّ عني السلام وأني أقول: رحم الله عبدًا اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإنَّ ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله تعالى بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإنَّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا»[1].

غير أنَّ هناك من يرى أنَّ (المنبر الحسيني) لم يعد يقوم بدوره كما ينبغي، بل هو يحتاج إلى تجديد وتطوير، وهذا ما يدعونا لعرض هذه الدعوى ونقدها، ولكن قبل ذلك لا بدَّ من بيان أهمّية هذا المنبر، فهنا نقطتان:

النقطة الأولى: أهمّية المنبر الحسيني. الذي نعتقده ابتداءً: أنَّ لهذا المنبر المبارك أهمية خاصة تقتضي احترامه والاهتمام به، ومنشأ هذه الأهمية يعود لأحد أمرين:

الأمر الأول: إنَّ المنبر الحسيني يشكل همزة الوصل بين الشيعة وأئمتهم؛ إذ أنَّ الأئمة (عليهم السلام) قد وضعوا قناتين لاتصال شيعتهم بفكرهم ومبادئهم ومفاهيمهم (عليهم السلام)، وهما:

القناة الأولى: المنبر الحسيني، فإنَّ أول من غرس بذرة المآتم الحسينية الشريفة هم الأئمة (عليهم السلام)، كما مرّ عليك في البحث السابق.

القناة الثانية: المرجعية الدينية، وقد تحدثتْ عن تقنين هذه القناة عدةٌ من الروايات، ومنها: قول الإمام العسكري (عليه السلام): «فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»[2]، وقول الإمام المهدي (عليه السلام): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله»[3].

وتتشعّب عن المرجعيّة الدينيّة مؤسَّسةٌ دينيّةٌ كبيرةٌ، تتّسع مظلّتها للعلماء والمدرّسين والمؤلّفين وطلبة العلوم الدينيّة وأئمة المساجد والخطباء، إلّا أنَّنا قد ذكرنا هؤلاء على حدةٍ لأنَّهم اللسان الناطق للمؤسّسة الدينيّة، ولهم أكثر الأثر في نشر أفكارها وإيصال رسائلها للشيعة.

ومن خلال هاتين القناتين الشريفتين نستطيع أن نتعرف على الكثير من مفاهيمنا الدينية والتربوية والسياسية والاجتماعية وغيرها، التي جاءَ بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ ولأنَّ المنبر الحسيني المبارك هو قناة الاتصال الفاعلة بين الشيعة وأئمتهم (عليهم السلام)؛ نظرًا لاعتماد قناة المرجعية الدينية عليه بصورةٍ أساسية؛ لذلك كان له من الأهمية ما ليس لغيره.

الأمر الثاني: تكمن أهمية المنبر الحسيني في كونهِ هو الوسيلة الإعلامية الأولى عند الشيعة الإمامية، فإنه رغم التطور الهائل لوسائل الإعلام بمختلف أصنافها، ورغمَ تعدد المنابر الإعلامية للشيعة، إلا أنَّ كل هذه الوسائل ما استطاعت أن تحدَّ من دور المنبر الفاعل، بل لا زال المنبر الحسيني في عموم مناطق الشيعة وبلدانهم هو قناة الإعلام الأولى التي ترفد الشيعة بالعطاءين: المعرفي والعاطفي، وهذا ما يؤكد أيضًا أهمية المنبر الحسيني وضرورة الاهتمام به.

وهذه الوسيلة الإعلامية لا يحدّها مكانٌ ولا زمانٌ، فإنَّ المنبر الحسيني ليس مقصورًا على الحسينيات، بل قد يقام في المساجد، والمنازل، والشوارع، والساحات العامّة، كما أنَّ منبر الحسين (عليه السلام) ليس محدودًا بأيام الجمعة أو بمناسبات معينة، بل تقام المآتم الحسينية في كل لحظةٍ وآنٍ -بمناسبة وبلا مناسبة- في جميع مناطق العالم، فهو وسيلةٌ إعلاميةٌ كبرى لا تضاهى ولا ينبغي التفريط فيها أبدًا.

ولذلك فليس من المستغرَب أبدًا أن يحارب أعداء التشيّع هذا المنبر الشريف، فإنّه إذا بقي بقيت راية التشيع متألقةً ومرفرفةً، وبقي صوت التشيع هادرًا، فلا غرو في أن تتعالى صيحات التشكيك في فاعلية دور المنبر الحسيني، بدعوى أنّه لم يعد يؤدِ وظيفته والدور المطلوب منه، بل قد أكل عليه الدهر وشرب! وبالطعن في الخطباء بدعوى أنّهم لا يمتلكون مستوى كافيًا من الوعي والمعرفة والإحاطة بالأحداث السياسية والعالمية، ولا يجيدون شيئًا سوى أسلوب المراثي وقراءة المصائب! وبالطعن في الذين يحضرون تحت ظلال المنبر ويتعلقون بأذياله ووصفهم بأنّهم أشخاصٌ رجعيّون متخلّفون لا نصيب لهم من الثقافة!

ولا يخفى على المتابع البصير أنَّ هذا النوع من التشكيكات في فعالية دور المنبر، ليس الغرض منه هو سوى القضاء على هذه الوسيلة الإعلامية الكبرى.

النقطة الثانية: مناقشة دعوى احتياج المنبر الحسيني للتجديد. مع بدءِ موسم عاشوراء من كلِّ عام، تكثر الأطروحات من قبل بعض مثقّفي الشيعة، ومن جملتها الأطروحة القائلة: إنَّ المنبر الحسيني يحتاج للتجديد والتطوير.

فهل هذه الأطروحة أطروحة صحيحة؟ أم هي قابلة للنقد والمناقشة؟

إنَّ معرفة وجه الحق في ذلك تتوقف على بيان ثلاث مقدّمات:

أ/ المقدمة الأولى: بيانُ المقصود من مصطلح (التجديد). وحاصلُ الكلام حول هذه المقدمة: أنَّ التجديد في الاستعمالات الشرعية والعرفية له معنيان:

المعنى الأول: إلغاء الوجود السابق، واستحداث وجود آخر. المعنى الثاني: التحفظ على الوجود السابق، مع إضافة بعض العناصر الجديدة إليه. ويمكن التمثيل لذلك بمثالين عرفيين وآخرين شرعيين، أما المثالان العرفيان فإنه يقال للإنسان إنه جدّد بيته في حالتين:

الحالة الأولى: أن يهدم بيته ويعيد بناءه من جديد، فيقال له: جدَدَّ بيته. الحالة الثانية: أن يحتفظ بهيكل البيت كما هو، ويقوم ببعض أعمال الصيانة فيه، فيقال له أيضًا: جدّد بيته. وهذا يعني أنَّ التجديد تارةً يُطلق على استحداث شيء جديد لم يكن له وجود في الخارج، وأخرى على إضافة أمر آخر إلى وجود متحقق في الخارج.

وذات المعنى موجود في الاستعمالات الشرعية، فمثلًا: ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من جدد قبرًا أو مثّل مثالًا فقد خرج عن الإسلام»[4]، وحين نرجع إلى كلمات الفقهاء فإنهم يقولون: إنَّ تجديد القبور المندرسة لغير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والعلماء (قدس سرهم) إما أن يكون مكروهًا أو محرّمًا، فإنَّ تجديد القبر في المقابر الموقوفة لعموم المؤمنين إذا كان يوجب المزاحمة لدفن بقية المؤمنين فهو محكومٌ بالحرمة، وإذا كان لا يوجب ذلك فإنه يكون مكروهًا.

وهذا التجديد – المحكوم بالحرمة تارةً وبالكراهة أخرى – يُرادُ به التجديد بمعناه الأول، وهو: استحداث وجود جديد بعد اندراس الوجود السابق.

وفي الفقهِ أيضًا يُستخدم التجديد بمعناه الثاني – وهو: إضافة شيء جديد لشيء موجود في الخارج – ويمكن التمثيل له بتجديد الوضوء، ففي الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن جددَ وضوءه لغير حدثٍ جددَ الله توبته من غير استغفار»[5].

وبيانُ ذلك: أنَّ معظم الفقهاء قائلون باستحباب الوضوء التجديدي، ومرادهم منه أن الإنسان حين يتوضأ ثم لا يحدث شيئًا من مبطلات الوضوء، فإنه أيضًا يستحب له أن يتوضّأ مرةً أخرى، مما يعني أنَّ الوضوء التجديدي هذا لا يلغي الوضوء السابق، بل يضيف له أمرًا جديدًا ليسَ إلا؛ ولذلك وردَ في الرواية عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «الوضوء على الوضوء نور على نور»[6]، وهذه الرواية صريحة في كون التجديد بمعنى إضافة أمر جديد على الوجود السابق.

ب/ المقدمة الثانية: هدف المنبر الحسيني. للمنبر الحسيني أهداف ثلاثة:

الهدف الأول: بيان المفاهيم الدينية للأئمة (عليهم السلام) في الفقه والعقيدة والسلوك. وتشهد بذلك الرواية المروية عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «تجلسون وتتحدثون؟ قلت: نعم، قال: تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذَكَرَنا أو ذُكِرْنا عنده فخرج عن عينيه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»[7].

فليست وظيفة المنبر هي بيان أقوال الغربيين ونظرياتهم، بل وظيفته إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) من خلال بيان معارفهم وتعاليمهم وأحكامهم، اللهم إلّا أن يكون الغرض من ذلك هو إبراز معرفةٍ دينيةٍ أو نقد فكرةٍ لادينيةٍ.

وإنّي لأعجب أشدَّ العجب ممّن يأنف معارف الوحي والكتاب والسنّة -وهي المعارف الإلهيّة- وينظر إليها بعين التخلّف والرجعيّة، ويغرّه بريق المعارف البشريّة، سيّما إذا اقترنت ببعض الأسماء الرنّانة الغربيّة، فيهتزّ طربًا لها، وينظر لها بعين الإجلال والإكبار، ويرى فيها العلم والثقافة والمعرفة، وقد ينتهي به الأمر -والعياذ بالله- إلى استسخاف المعارف الوحيانيّة، واحتقار تعلّمها والتعرّف عليها، كما رأينا ذلك عند كثيرين، والمستجار بالله من هذه الغفلة والخلّة.

الهدف الثاني: صيانة الفكر الشيعي عن الانحراف. وتشهد لذلك قضية دعبل الخزاعي مع الإمام الرضا (عليه السلام)، حيث دخلَ عليه، وأمره الإمام (عليه السلام) بإلقاء قصيدته الخالدة، ثمَّ كافأه عليها – وكان إلقاء القصائد الرثائية آنذاك هو الصيغة المتعارفة للمأتم الحسيني – فيمكن من خلال نفس قصيدته استكشاف الخطوط العامة للمنبر المرضي عند أهل البيت (عليهم السلام).

وخلاصة ما تعرض له دعبل e في قصيدته المباركة أنه بيّن أولًا مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، ثمَّ تعرض لبعض الحقائق التاريخية، وفي الضمن تعرض أيضًا لبعض الشبهات ونَقَدَها، ومن أمثلة ذلك قوله:

ولو قَلَّدُوا المُوصى إليهِ أمورَهُمْ لَزُمّت بمأمونٍ عن العَثَراتِ أخا خاتمِ الرُّسْلِ المُصفَّى عن القذى ومُفتَرِسَ الأبطال في الغمراتِ فإنْ جحدوا كانَ الغديرُ شهيدَهُ وبَدْرٌ وأُحْدٌ شامخُ الهضباتِ وبالتأمل في هذه الأبيات الثلاثة يظهر أنَّ دعبل الخزاعي قد تعرض في منبره – الذي باركه له الإمام الرضا (عليه السلام) وكافأه عليه – للشبهة المتعلقة بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتقديم غيره عليه، ونقدَ هذه الشبهة، وأوضحَ أن الإمامة للإمام عليٍّ (عليه السلام)، وأنَّ يوم الغدير وبدر وأحد شهود على أحقيته (عليه السلام) بالإمامة.

ونظرًا لأنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد ارتضى هذه القصيدة، فإنه قد نهض بعد فراغ دعبل من إنشادها، وأمره أن لا يبرح موضعه، ودخل الدار، ولما كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمئة دينار رضوية، فقال له: يقول لك مولاي: اجعلها في نفقتك، فقال دعبل: والله ما لهذا جئت، ولا قلت هذه القصيدة طمعًا في شيء يصل إليَّ، وردّ الصرة، وسأل ثوبًا من ثياب الإمام الرضا (عليه السلام) ليتبرك ويتشرف به، فأنفذَ إليه الإمام الرضا (عليه السلام) جبة خزّ مع الصرة، وقال للخادم: قل له: خذ هذه الصرّة، فإنك ستحتاج إليها، ولا تراجعني فيها، فأخذ دعبل الصرّة والجبة وانصرف[8].

ومن إقرار الإمام الرضا (عليه السلام) للقصيدة ومضامينها يُعلم أنَّ واحدًا من الخطوط العامة التي ينبغي أن يكون عليها المنبر الحسيني: صيانة الفكر الشيعي عن الانحراف وردُّ الشبهات المنحرفة.

الهدف الثالث: ترسيخ مبدأ التولّي والتبرّي. وأما الهدف الثالث الذي ينبغي أن تتوخاه المنابر الحسينية الشريفة فهو: ترسيخ حالة الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) من ناحية، وتفعيل حالة العداء لأعداء أهل البيت (عليهم السلام) من ناحية أخرى؛ ولذلك جاءت النصوص الشريفة تركّز على إثارة مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها قول الإمام الرضا (عليه السلام): «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»[9]، وأمثالها من الروايات كثير.

وتركيز الأئمة (عليهم السلام) على إثارة مظلوميتهم ضمن المجالس الحسينية، يتوخونَ منه غرضين:

الغرض الأول: تقريب الناس من أهل البيت (عليهم السلام)، وشدُّ عواطفهم إليهم؛ باعتبار ما يترتب على عرض المظلومية من إثارة العواطف وتوهجها.

الغرض الثاني: تنفير الناس عن أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

فإنه كلما عُرضت مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) أوجبت تعلّق القلوب بهم، والتنفير من أعدائهم، فإنَّ كلَّ قلبٍ يسمع بما جرى على الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) لن يزداد لأعدائها وظالميها إلا بغضًا، وكلُّ قلب يسمع بما جرى على سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) لن يزداد لقتلته إلا كُرهًا.

والمحصَّلة: فإنَّ مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) حين تترسّخ في نفوسنا، وتختلط بقلوبنا ومشاعرنا، تشدُّ قهرًا علاقتنا بهم، وتنفّرنا عن أعدائهم.

ولذلك تجد الإعلام المعاصر عندما يريد تحريك قضيةً من القضايا بشكلٍ واسع، فإنه دائمًا ما يُركِّز على الجانب المأساوي للقضية، باعتبار أنَّ جنبةَ المظلومية هي التي توجب التفاعل العاطفي، وتحرِّك مشاعر الغضب العالمي تجاه الظالمين.

ج/ المقدمة الثالثة: متى نحتاج إلى التجديد؟ من الواضح: أنَّ العقلاء إنما يلجؤون لحركة التجديد فيما لو لم يتحقق هدفهم من خلال الوجود السابق الذي تحت أيديهم، فمثلًا لو كانَ الإنسان يمتلك سيارة أو منزلًا فإنه لن يقدم على تجديدهما إلا فيما لو لم يكونا محققين لأهدافه واحتياجاته، وأما لو كان الوجود الحالي للمنزل أو السيارة أو غير ذلك محققًا لحاجته وهدفه، فإنه لن يقدم على حركة التجديد، بل سيعتبر ذلك لونًا من ألوان الترف والعبثية.

عودًا على بدء: وبعد أن عرضنا هذه المقدمات الثلاث نعود إلى صلب الموضوع، وهو: هل أنَّ الأطروحة الداعية إلى تجديد المنبر الحسيني أطروحة صائبة، أو غير صائبة؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بدَّ من أن نفهم أولًا: ما هو مقصود المطالبين بالتجديد من التجديد؟ إذ قد اتضح لنا مِن خلال ما سبقَ أنَّ التجديد يطلق على معنيين.

فنقول: إن كان مقصودهم منه المعنى الأول، وهو استحداث شيء جديد بعد إلغاء الوجود السابق، فهذه الدعوى مرفوضة جملةً وتفصيلًا؛ لأنَّ المنبر – بوجوده الفعلي – يؤدّي رسالته بقوة وفاعلية؛ إذ لا زالَ يحقّق الأهداف المرجوة منه، والتي تقدمَ الحديث عنها ضمن المقدمة الثانية.

وإذا كان المنبر الشريف لا زال يحقق أهدافه فمن اللغو والعبثية حينئذ السعي إلى تجديده بالمعنى الأول للتجديد؛ بل إنَّ ذلك – بمقتضى المقدمة الثالثة المتقدمة – ليس تصرّفًا عقلائيًا.

والمحصّلة: فإنه ليس يمكن التنازل عن المنبر الحسيني – بوجودهِ الفعلي – وتجديده، إن كان المراد من التجديد إلغاؤه واستحداث وجود آخر مباينٍ لوجوده الحالي.

وإن كان مقصودهم من التجديد معناه الثاني، وهو إضافة بعض الأمور للمنبر الحسيني، فنقول: إنَّ هذه الأمور التي نحاول إضافتها إلى المنبر الحسيني إن كانت لا تصب مصبَّ أهدافه، فتجديد المنبر بها يكون تشويهًا له ومسخًا لهويته، وإن كانت العناصر المُضافة مما تتطلبها نفس أهداف المنبر فالتجديد بها مطلوب؛ ومن هذا المنطلق نقول: إنَّ المنابر الحسينية النسائية بحاجةٍ إلى التجديد بالمعنى الثاني، أي: إضافة بعض الأمور – التي تفتقدها – إليها، كبيان المعارف الفقهية والعقائدية.

ومما ذكرناه اتضح أنَّ الأطروحة القائلة: (إنَّ المنبر الحسيني يحتاج إلى التجديد) وإن كانت أطروحة ذات شعار برّاق، إلا أنه لا يمكن قبولها بشكل مطلق، بل لا بدَّ من الوقوف عندها وقوف المتأمل، بالنحو الذي أوضحناه[10].

الهوامش: [1] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: ج1، ص200.

[2] وسائل الشيعة: ج27، ص131، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم (عليه السلام) فيما يقول برأيه وفيما لا يعمل فيه بنص عنهم (عليهم السلام)، ح20.

[3] وسائل الشيعة: ج27، ص140، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة، لا فيما يقولونه برأيهم، ح9.

[4] من لا يحضره الفقيه، ج1، 189، باب كراهة تجديد القبر، ح579.

[5] وسائل الشيعة: ج1، ص377، باب استحباب تجديد الوضوء من غير حدث، ح7.

[6] وسائل الشيعة: ج1، ص377، ح8.

[7] قرب الإسناد: 36.

[8] عيون أخبار الرضا، ج2، ص295، باب في ذكر ثواب زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، ح34.

[9] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1، ص264، باب فيما جاء عن الإمام علي بن موسى (عليه السلام) من الأخبار المتفرقة، ح48.

[10] وُجِّه سؤالٌ للمرجع الدينيّ الكبير، السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظلّه الشريف) حول رأيه الشريف في أساليب مجالس العزاء المتعارفة، وكذا بقيّة الشعائر الحسينيّة المباركة -من اللطم، ونشر السواد، وسقي الماء، وإطعام الطعام، وظهور المواكب العزائية بكافّة أشكالها- فأجاب: «فنحن نحبّذ إقامة الشعائر المذكورة بالوجه المذكور، ونؤكّد عليها بإصرار… لأنها قد أثبتت جدارتها وفاعليتها -على طول التاريخ، وتقلّب الأحوال- في شدّ عامّة المؤمنين لمبادئهم الحقّة، وتمسّكهم بها، وتفاعلهم معها، وتأجيج مشاعرهم نحوها، حتى بذلوا فيها الغالي والنفيس، وهم عمد الدعوة الحقّة، وحصنها المنيع، الذين لا تنقطع مادّتهم، ولا يتسنّى لقوى الشرّ القضاء عليهم، ولا إخماد صوتهم، فتركيز الدعوة في نفوسهم وشدّهم إليها من أهمّ أسباب بقائها وظهورها…

وقد يظنّ الظانّ أنَّ تطوّر الأوضاع في العالم المعاصر يُلْزِم بتطوير وسائل الدعوة وتبديلها، بما يتلاءم مع واقع العصر وينسجم معه، لكنّنا في الوقت الذي نحبّذ فيه إيجاد وسائل تناسب التطوّر المذكور، نرى أنَّ ذلك يجب أن يكون مصاحبًا لهذه الشعائر بواقعها المعقود المألوف، لا بدلًا عنها؛ فإنَّ هذه الشعائر حينما وُجِدَت في غابر الزمان وُجِدَت غريبةً عن الواقع الذي قامت فيه حينئذٍ، وتعرّضت لأقسى أنواع المقاومة والتشنيع والتهريج، لكنّها ثبتت وفرضت نفسها متحدّيةً لذلك الواقع، وأدّت وظيفتها على أفضل وجوهها وأكملها» [من وحي الطف: ص76].


طباعة   البريد الإلكتروني