لقد كان الإمام الرضا (ع) من أكثر الأئمة المعصومين (ع) الذين أتيحت لهم الفرصة لإظهار التفاعل مع مأساة الحسين (ع)، وللحديث حول كيفية التفاعل معها، فوردت عنه نصوصٌ كثيرةٌ جدًا فيما يرتبط بهذا المجال، ومن أبرزها: رواية الريّان ابن شبيب[1]، وهي روايةٌ مطوّلةٌ -سنذكرها مجزَّأةً خلال البحث- معتبرة السند، وتتضمّن منهجًا تربويًا سلوكيًا لكيفيّة التفاعل مع موسم عاشوراء، حيث تعرّض فيها الإمام (ع) لمطلبين مهمّين:
المطلب الأول: كيفيّة الإعداد للتفاعل مع موسم عاشوراء. ممّا لا خفاء فيه: أنَّ كلّ موسم عبادي يعيشه الإنسانُ في حياته يحتاج إلى تهيئةٍ وإعدادٍ، فصيام شهر رمضان مثلًا يحتاج إلى إعدادٍ سابق، ولذلك يستحبّ للإنسان قبل شهر رمضان أن يصوم أيامًا ولو بمقدار ثلاثة أيام على أقل تقدير، فضلًا عن أن يصوم شعبان بتمامه، أو شهرَي رجب وشعبان.
وهكذا حال الحج أيضًا، فإنّه يحتاج إلى تهيئة، بل حتى الصلاة -التي هي فريضةٌ يوميةٌ- تحتاج إلى تهيّؤٍ واستعدادٍ، ولذلك جعل الله لها مواقيتَ معيّنةً ولم يجعلها مطلقةً، حتى يتهيّأ الإنسان للقاء ربّه وعبادته سبحانه وتعالى.
ومن جملة المواسم العبادية المهمّة التي يعيشها الإنسان في حياته: موسم عاشوراء، فكما أنَّ شهر رمضان موسمٌ عباديٌ، وكما أنَّ الحجّ موسمٌ عباديٌ، كذلك عشرة محرّم موسمٌ من المواسم العباديّة التي تحتاج إلى التهيّؤ والاستعداد.
وقد بيّن الإمام الرضا (ع) -في منهجه الذي نقله لنا ابن شبيب- أنَّ الإعداد للتفاعل مع موسم عاشوراء يتوقّف على عنصرين:
العنصر الأول: التهيئة الروحية. قال ابن شبيب: «دخلتُ على الرضا (ع) في أول يوم من المحرّم، فقال: يا بن شبيب، أصائمٌ أنت؟ قلتُ: لا. فقال: إنَّ هذا اليوم هو اليوم الذي دعا الله فيه زكريا (ع) ربّه (عزّ وجل) فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[2]، فاستجاب الله له، وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائمٌ يصلّي في المحراب أنَّ الله يبشّرك بيحيى، فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله (عزّ وجل) استجاب الله له كما استجاب لزكريا».
ففي هذا المقطع من الرواية، تعرّض الإمام (ع) لمسألة الصيام في أول يوم من أيام عاشوراء، وعندما نرجع إلى فتاوى الفقهاء (أعلى الله كلمتهم) ابتداءً من الشيخ الصدوق (قده) وانتهاءً بسيد الطائفة الخوئي (قده) ومن جاء بعده من تلامذته، نجد فقهاء الشيعة يقولون بأنَّ من الأيام التي يستحبّ صيامُها: اليوم الأوّل من أيام عاشوراء[3]، بل إنَّ السيد الخوئي (قده) في منهاجه يذكر صيام اليوم الأول من جملة أقسام الصيام المؤكّد استحبابُه[4].
والغرض من الصيام في أول يوم من أيام عاشوراء هو التهيئة الروحية؛ باعتبار أنَّ الصيام له مكاسبُ مهمّةٌ يحتاجها الإنسانُ في أيام عاشوراء، ومنها:
المكسب الأول: تعميق روح الإخلاص. فإنَّ الصّيام قد فرضه الله سبحانه وتعالى تحكيمًا وتعميقًا وتثبيتًا لروح الإخلاص، كما في خطبة الصديقة الزهراء (ع): «ففرض… والصيام تثبيتًا للإخلاص»[5]، والإنسان في الموسم العبادي أشدّ ما يحتاج إليه هو الإخلاص؛ لأنّ قيمة كل عملٍ بمقدار الإخلاص فيه.
فعندما تبذل عشرة أيام من حياتك في العزاء والبكاء وفي الخدمة الحسينية، فإنَّما تكون لأعمالك قيمةٌ بالإخلاص، إذ ينبغي أن يكون عملك في عاشوراء خالصًا للحسين (ع) فقط، ولا مجال في عاشوراء للحزبيّة والفئويّة ولا للتوجّهات والتيّارات، بل يكون بكاؤك وعزاؤك وندبتك وخدمتك كلّها للحسين (ع) فقط.
وممّا يساعد الإنسان على تحصين عنصر الإخلاص عن الشوائب: الصيام، ولذلك أوصى به الإمام الرضا (ع) في أوّل يوم من أيام عاشوراء.
المكسب الثاني: إيجاد حالة الانكسار ورقّة القلب. من الظواهر التي نشاهدها بالوجدان: أنَّ قلب الإنسان بمجرد أن يبتعد عن المواسم العبادية، وينقطع عن الدمعة وعن مجالس الحسين (ع)، فإنّه يتحوّل إلى قطعةٍ قاسيةٍ، وإذا وصل الإنسان إلى موسم عاشوراء وقلبه قطعةٌ قاسيةٌ فحينئذٍ تفوت عليه كثيرٌ من المغانم التي يستفيدها من خلال الدمعة والصرخة ونحوهما.
وللصيام دورٌ مهمٌّ في علاج القلب من قسوته، حيث ورد عن النبي الأعظم (ص): «قال الله (عزّ وجل): الصوم لي وأنا أجزي به، فالصوم يميت مراد النفس، وشهوة الطبع الحيواني، وفيه صفاء القلب، وطهارة الجوارح، وعمارة الظاهر والباطن، والشكر على النعم، والإحسان إلى الفقراء، وزيادة التضرّع والخشوع والبكاء»[6].
فهناك ترابطٌ بين عملية الصيام ورقّة القلب، وبما أنَّ الإنسان حتى يغتنم غنائمَ عاشوراء ويفوز بنفحاتها يحتاج إلى الدمعة المتحرّكة السيّالة؛ لذلك أمر الإمام الرضا (ع) بالصيام في أول يوم من أيام عاشوراء حتى يفوز الإنسان بهذا المكسب -وهو إيجاد حالة الانكسار والخضوع والخشوع والرقّة- فإذا فاز به فاز بمغانم عاشوراء وألطافها.
العنصر الثاني: الاستثارة العاطفية. حتى يتهيّأ الإنسان للتفاعل مع موسم عاشوراء، فإنّه يحتاج إلى استثارةٍ عاطفيّةٍ، وقد ركّز الإمام الرّضا (ع) في منهجه التربوي والسلوكي -الذي أوصله لنا عن طريق ابن شبيب- على أربعة مثيرات وجدانيّة، وهي: زمان الحدث، وكيفيته، وشخصيته، وآثاره، وعندما يستحضر الإنسانُ هذه المثيراتِ الأربعة فإنّه يستثير عاطفتَه، وبالتالي تتهيّأ نفسُه للتفاعل مع الموسم العاشورائي، وإليك بيانها:
المثير الأول: زمن الحدث. وهو ما تحدّث عنه الإمام (ع) في قوله: «يا بن شبيب، إنَّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهلُ الجاهليّة يحرّمون فيه الظلمَ والقتالَ لحرمته، فما عرفت هذه الأمّةُ حرمةَ شهرها ولا حرمةَ نبيّها، لقد قتلوا في هذا الشّهر ذرّيتَه».
وتوضيح هذا المثير: عندما يُقْتَل إنسانٌ مؤمنٌ في الأشهر الحُرُم -وهي محرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجّة- يختلف أمرُه عمّا لو قُتِلَ في غيرها، حيث تكون الجريمة مضاعفةً، إذ ينصّ الفقهاء على أنَّ من قتل إنسانًا في غير الأشهر الحرم فعليه الدية، ولكن من قتل إنسانًا في الأشهر الحرم فعليه الدية وثلثها، هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى: من يقتل إنسانًا في غير الأشهر الحرم لا كفّارة عليه، بينما من يقتل إنسانًا في الأشهر الحرم لا يكفي أن يدفع الدية وانتهى الأمر، بل عليه كفّارة الجمع أيضًا، وهي عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينًا، ولا بدَّ من أن يكون صيامُ الشهرين المتتابعين في الأشهر الحرم لا في غيرها، فإمّا أن يصوم ذا القعدة وذا الحجة، أو يصوم ذا الحجة وشهر محرّم، وبالتالي فحتى يوم العيد يجب عليه صيامه، وإن كان بالنسبة لغيره حرامًا[7].
فالقتل في الأشهر الحرم له خصوصيّةٌ يختلف بها عن القتل في غيرها، وعندما يلتفت الإنسان إلى أنَّ الحسين (ع) لم يُقْتَل في الأشهر الاعتياديّة، وإنما قُتِلَ في شهرٍ من شهور الله سبحانه وتعالى الحرام، فهذا يكون أوّل محرّكٍ يستثير عاطفته.
المثير الثاني: كيفية الحدث. وهو ما تحدّث عنه الإمام الرضا (ع) في قوله: «لقد قتلوا في هذا الشّهر ذرّيتَه، وسبوا نساءَه، وانتهبوا ثقلَه، فلا غفر الله لهم ذلك أبدًا. يا بن شبيب، إن كنتَ باكيًا لشيء فابكِ للحسين بن علي بن أبي طالب؛ فإنّه ذُبِحَ كما يُذْبَحُ الكبش»، فهنا بيّن الإمام (ع) أنَّ ما جرى على آل رسول الله (ص) في شهر عاشوراء كان من ناحيةٍ عملية قتل، ومن ناحيةٍ أخرى عملية سبي وسلب، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ كان عملية انتهاب لثقل آل رسول الله (ص)، وعندما يستحضر الإنسانُ صورة القتل يجدها لم تكن صورةً اعتياديّةً، حيث «ذُبِحَ كما يُذْبَح الكبش»، فكيفية الحدث مثيرٌ آخر.
والتركيز على تفاصيل المصائب أمرٌ مطلوبٌ؛ لأنَّ الإحاطة بالجزئيات والتفاصيل مثيرٌ من مثيرات العاطفة التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يتفاعل مع موسم عاشوراء.
المثير الثالث: شخصية الحدث. عندما يُقْتَل إنسانٌ مؤمنٌ فإنَّ الأرض تهتزّ لقتله، لكن عندما يُقْتَل مرجعٌ من مراجع الطائفة فإنَّ المسألة تختلف، والحدث يكون أعظم، فشخصية الحدث عندما يعرفها الإنسانُ يزداد تأثّرًا بالحدث وتفاعلًا معه.
ولذلك جعل الإمام الرضا (ع) هذا الجانب من المثيرات، حيث قال: «وقُتِلَ معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلًا ما لهم في الأرض شبيهٌ»، فهؤلاء الذين قُتِلُوا لا يعادلهم أحدٌ على وجه الأرض، فلو بحثتَ عن شخصٍ كالعبّاس بن عليّ (ع) لن تجد له عِدْلًا على وجه الأرض، ولو بحثتَ عن شخصيةٍ كعليّ الأكبر (ع) لن تجد لها كُفْئًا على وجه الأرض، فهؤلاء هم صفوة أهل الأرض، وقد أبيدوا جميعًا يوم عاشوراء، فكون شخصية الحدث شخصيةً عظيمةً مثيرٌ من المثيرات المحرّكة لعاطفة الإنسان.
المثير الرابع: أثر الحدث. إنَّ كلّ حدثٍ تكون عظمته بمقدار الآثار المترتّبة عليه، وقد ترتّبت على حدث عاشوراء آثارٌ مهمّةٌ وخطيرةٌ وكبيرةٌ وعظيمةٌ جدًا، وقد تحدّث عنها الإمام الرضا (ع) بعد أن تحدّث عن المثيرات الثّلاثة، حيث قال: «ولقد بكت السّماواتُ السّبعُ والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعةُ آلاف ملكٍ لنصره، فلم يُؤْذَن لهم، فهم عند قبره شُعْثٌ غُبْرٌ إلى أن يقوم القائمُ فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين. يا بن شبيب، لقد حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه (ع) أنّه لمّا قُتِلَ جدّي الحسينُ أمطرت السّماءُ دمًا وترابًا أحمر».
فعندما يرسم الإنسان صورةً متكاملةً لهذه المثيرات الأربعة -زمن الحدث وكيفيته وشخصيته وآثاره- ويجعلها حاضرةً في نفسه، فإنّه يستثير بذلك نفسَه استثارةً عاطفيّةً، ويتهيّأ بذلك للتفاعل مع الموسم العاشورائي.
المطلب الثاني: بيان مصاديق التفاعل مع موسم عاشوراء. بعد أن تحدّث الإمام الرضا (ع) عن عناصر عملية التهيئة والإعداد للتفاعل مع الموسم العاشورائي، تعرّض لبيان مصاديق التفاعل، ثم تعرّض لبيان القاعدة والضابطة الكلية التي ينبغي أن يسير المؤمنُ على وفقها.
ومصاديق التفاعل التي تعرّض لها أربعة، وهي:
أ/ البكاء على الحسين (ع): «يا بن شبيب، إنْ بكيتَ على الحسين حتى تصيرَ دموعُك على خدّيك غفر الله لك كلَّ ذنبٍ أذنبتَه، صغيرًا كان أو كبيرًا، قليلًا كان أو كثيرًا».
ب/ زيارة الحسين (ع): «يا بن شبيب، إن سرَّك أن تلقى الله تعالى ولا ذنبَ عليك فزر الحسينَ (ع)»، فينبغي للإنسان أن يجعل زيارة الحسين (ع) جزءًا من برامجه اليومية في عاشوراء، خصوصًا زيارة عاشوراء أو زيارة وارث.
ج/ لعن قتلة الحسين (ع): «يا بن شبيب، إن سرَّك أن تسكن في الغرف المبنية في الجنّة مع النبي (ص) فالعن قتلة الحسين».
د/ تمنّي الكينونة مع الحسين (ع): «يا بن شبيب، إن سرَّك أن يكون لك من الثّواب مثل ما لمن اُسْتُشْهِدَ مع الحسين بن علي (ع) فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا».
ثم بيّن الإمام (ع) الضّابطة الكليّة، وختم الرّواية بذلك، حيث قال: «يا بن شبيب، إن سرَّك أن تكون معنا في الدرجات العلى في الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلًا أحبّ حجرًا لحشره الله (عزّ وجل) معه يومَ القيامة».
فالمطلوب من الإنسان في شهر عاشوراء أن يحزن لحزن الحسين (ع)، وذلك بالبكاء، واللطم، ولبس السواد، وترك الملذّات، وغير ذلك من مظاهر الحزن على الحسين (ع)، فكلّ ذلك من مصاديق هذه الضابطة الكلّية.
الوجه في عدم الاكتفاء بالضابطة الكلّية: وهنا سؤالٌ مهمٌّ لا بدَّ من التّركيز عليه، وهو أنَّ الإمام الرضا (ع) في هذا المنهج التربوي العاشورائي ما دام قد بيّن الضّابطة الكليّة «فاحزن لحزننا» فلماذا ذكر بعضَ المصاديق، كالبكاء والزيارة؟ ولماذا لم يكتفِ ببيان الضابطة الكلّية، مع أنَّها تشمل جميع مصاديق التفاعل مع مأساة الحسين (ع)؟
والجواب عن ذلك: إنَّ عدول الإمام عن بيان العنوان العام إلى بيان المصاديق والأفراد يعود لإحدى نكتتين: إحداهما نكتةٌ بلاغيةٌ أدبيةٌ، والأخرى نكتةٌ فقهيةٌ.
1/ النكتة البلاغية: التنبيه على أهمية الأفراد والمصاديق. فعندما يكون هناك فردٌ له أهمّيةٌ، أو مصداقٌ له ميزةٌ ليست لغيره، فإنّه يُذْكَر ضمنَ العنوان العام، ثم يُذْكَر بشكلٍ مستقلٍ تنبيهًا على أهمّيته، كما في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾[8]، فإنَّ الصلاة الوسطى داخلةٌ ضمن الصّلوات، فينطبق عليها قوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، ولكنّه خصّها بالذكر من أجل التنبيه على أهمّيتها؛ إذ لها من الأهمّية ما ليس لغيرها من الصلوات، وقد فسّرتها الروايات المتكثّرة عن أهل البيت (ع) بصلاة الظهر[9].
2/ النكتة الفقهية: التنبيه على المصداق الخفي. فالعنوان الكلّي قد تكون له مصاديقُ عرفيةٌ واضحةٌ، وقد تكون له مصاديقُ خفيةٌ لا يلتفت إليها العرفُ، وحينئذٍ يتدخّل الشارع المقدّس ويحدّد تلك المصاديق.
فمثلًا: ورد في الروايات الشريفة: «إياكم والمُثْلَة ولو بالكلب العقور»[10]، فالتنكيل والتمثيل بجسد الميّت من المحرّمات المنهي عنها، وله مصاديق واضحة، ولكنّ هناك مصاديقَ خفيّةً للمثلة لا يلتفت لها العرف، ولذلك يأتي الشّارع ويبيّنها.
ومن ذلك ما ورد عن النبي الأعظم (ص): «حلق اللّحية من المثلة، فمن مثّل فعليه لعنة الله»[11]، فهنا بيّن النبي (ص) أنَّ حلق اللحية من المثلة؛ لأنّ العرف لا يلتفت إلى هذا المصداق، إذ يتصوّر العرف أنَّ المثلة إنَّما تتحقّق بقطع اليد أو الرجل أو تشويه الوجه ونحو ذلك.
تطبيق هاتين النكتتين على الشعائر الأربع: وإذا اتّضحت هاتان النكتتان، فحينئذٍ نقول: لقد بيّن الإمام الرضا (ع) الضابطة الكلّية في قوله: «فاحزن لحزننا»، ثم ذكر البكاء والزيارة تنبيهًا على أهميتهما، وذكر اللعن وتمني الكينونة لأنَّهما مصداقان خفيّان.
أمّا كون البكاء مصداقًا لا يعادله شيءٌ من مصاديق التفاعل، فهو واضحٌ على ضوء ما بحثناه في الفصل السابق، فقد تبيّن أنَّ هذه الشعيرة -وكذلك شعيرة الزيارة كما سيتبيّن إن شاء الله في الفصل اللاحق- لها ثوابٌ غير محدود، بخلاف سائر الشعائر الأخرى، ولذلك لهاتين الشعيرتين من الأهمّية ما ليس لغيرهما، وقد مرّ عليك ما ورد عن الإمام الصادق (ع): «لكلّ شيء ثوابٌ إلا الدمعة فينا»[12].
ولذلك لا يصح لأحدٍ أن يقول: المهمّ في أيام عاشوراء أن ألطم وأن ألبس سوادًا، وليس من اللازم أن أبكي! فإنَّ هذا اشتباهٌ؛ إذ البكاء على الحسين (ع) أهمّ مصداق من مصاديق التّفاعل، ولا يحصل الإنسانُ على ثواب شيء كما يحصل على الثواب من خلال الدمعة على الحسين (ع).
وأمّا المصداقان الآخران -اللعن وتمنّي الكينونة- فقد خصّهما الإمام (ع) بالذكر لأنّهما مصداقان خفيّان، وإليك بيان ذلك:
المصداق الخفي الأول: لعن قتلة الحسين (ع). يتصوّر كثيرٌ من الناس أنَّ التفاعل مع موسم عاشوراء هو تفاعلٌ إيجابيٌ فقط، فيتحقق بالبكاء واللطم ولبس السواد ونحو ذلك، والحال أنَّه تفاعلٌ سلبيٌ أيضًا، فالتفاعل الإيجابي بالبكاء على سيّد الشهداء (ع) والاقتراب منه، والتفاعل السلبي بالبراءة من أعداء الحسين (ع) ولعنهم.
ففي أيام عاشوراء، ينبغي للإنسان أن يقترب من الحسين (ع) من خلال دمعته وصرخته وزيارته، ومطلوبٌ منه أيضًا أن يبتعد عن الخطوط الخارجة عن خطّ الحسين (ع) والمنحرفة عنه من خلال إعلان البراءة منها ولعن قتلة الحسين (ع)، فالتفاعل لا ينبغي أن يكون إيجابيًا فقط، بل هناك تفاعلٌ سلبيٌ أيضًا، ولأنّ هذا المصداق مصداقٌ خفيٌ لذلك خصّه الإمام الرضا (ع) بالذكر[13].
المصداق الخفي الثاني: تمنّي الكينونة مع الحسين (ع). يظنّ بعض الناس أنَّ قولنا: (يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا) مجرّد كلمة اعتياديّة، والحال أنَّها ليست كذلك، فقد قالت الرواية: «يا بن شبيب، إن سرَّك أن يكون لك من الثّواب مثل ما لمن اُسْتُشْهِدَ مع الحسين فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوزًا فوزًا عظيمًا»، وهذا لا يعني أنَّ الإنسان بمجرد أن تخرج منه هذه الكلمة فإنّه ينال ثوابَ من استشهد مع الحسين (ع)، بل لهذه الكلمة أبعادٌ أكبر وأعمق، فهي محطّة اختبار للإنسان ومحكّ امتحانٍ له.
وتوضيح ذلك: إنَّ المؤمن عندما يريد أن يتكلم بأيّ كلمةٍ فلا بدَّ من أن يتفكّر فيها قبل أن يتلفظ بها، فإمّا أن تكون مطابقةً للواقع فيتكلم بها ويكون ذلك صدقًا، وإمّا أن تكون مخالفةً للواقع فإذا تكلّم بها كان ذلك كذبًا حرامًا يؤثم عليه.
وعليه فعندما نقول: (يا ليتنا كنّا معهم)، هل فكّرنا في مدى صدق هذه الكلمة على ألسنتنا؟ بل هل تعقّلنا أصلًا معناها؟! عندما تقول هذه الكلمة فمعناها:
يا ليت صدري هو الذي طحنته الخيلُ ولم تطحن صدرَ الحسين (ع).. يا ليت قلبي هو الذي مزّقه السّهمُ المثلثُ وسَلِمَ قلبُ الحسين (ع).. يا ليت جبيني هو الذي مزّقه حجرُ ابن أبي الحتوف وسَلِمَ جبينُ الحسين (ع).. يا ليت أختي سُبِيَت ولم تُسْبَ زينبُ (ع) أختُ الحسين (ع).. يا ليت ابنتي سُلِبَت ولم تُسْلَب سكينةُ بنت الحسين (ع).. يا ليت زوجتي ضُرِبَت ولم تُضْرَب الرّبابُ زوجة الحسين (ع).. يا ليت ولدي الرّضيع ذُبِحَ ولم يُذْبَح رضيعُ الحسين (ع)… فهذه العبارة محطّة امتحانٍ واختبارٍ، ومن أراد أن يتفاعل مع أيام عاشوراء فليراجع نفسَه دائمًا ليرى هل هو صادقٌ في هذه العبارة أم لا؟ وهل هو متصوّرٌ لما جرى على الحسين (ع) ومع ذلك يتمنّى أن يكون معه؟! فمَن يصدق في ذلك يكون له ثواب مَن اُسْتُشْهِد مع الحسين (ع).
الهوامش:
[1] عيون أخبار الرضا (ع): ج1، ص299؛ أمالي الصدوق: ص192.
[2] سورة آل عمران: 38.
[3] لاحظ (العروة الوثقى: ج2، ص475، الفصل 15 في أقسام الصوم) وتعليقات الأعلام عليها.
[4] منهاج الصالحين: ج1، ص287 – ص288، مسألة 1065.
[5] علل الشرائع: ج1، ص248.
[6] بحار الأنوار: ج96، ص254.
[7] جاء في (مباني تكملة المنهاج، ج2، ص200، مسألة 209): «دية القتل في الأشهر الحرم عمدًا أو خطأ دية كاملة وثلثها، وعلى القاتل متعمّدًا مطلقًا كفّارة الجمع، وهي عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينًا، وإذا كان القتل في الأشهر الحرم فلا بدَّ وأن يكون الصوم فيها».
[8] سورة البقرة: 238.
[9] وسائل الشيعة: ج3، ص14، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها، باب 5، وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى وتعيينها.
[10] وسائل الشيعة: ج19، ص96.
[11] مستدرك الوسائل: ج1، ص406.
[12] وسائل الشيعة: ج14، ص597، باب استحباب إنشاد الشعر في رثاء الحسين (ع) وأهل البيت (ع) وبكاء المنشد والسامع، ح6.
[13] وهذا اللعن سنّةٌ قد جرى عليها الأنبياء (ع) من أولي العزم وغيرهم، فراجع ما جمعه العلامة المجلسي (قده) في (بحار الأنوار: ج44، باب 30، إخبار الله تعالى أنبياءه (ع) ونبينا (ص) بشهادته، ص242 – ص245).