حدود الشعائر الحسينية وضوابطها

(وقت القراءة: 8 - 16 دقائق)

200704 210030

وصلنا في البحث السابق إلى أنَّ الشعائر الحسينية أمورٌ غير توقيفية، فيمكن استحداث مصاديق جديدة لها لم تكن موجودة في زمن المعصوم (عليه السلام)، وهذه النتيجة تثير تساؤلًا مهمًّا، وهو: هل تأسيس الشعائر الحسينية شرعةٌ لكل وارد، بحيث يستطيع كل شخص أن يؤسّس شيئًا باسم الحسين (عليه السلام)، ويعتبره شعيرة حسينية؟ أم أنَّ هذه الشعائر لها حدود وضوابط، بحيث لا يمكن استحداث مصداق جديد لها إلّا على ضوء تلك الحدود والضوابط؟

وسرّ هذا التساؤل هو: أنَّ الشعائر الحسينية المباركة تترتّب عليها – كما سيأتي مفصَّلًا – مجموعة من الأحكام الشرعية، كحرمة توهينها، فهل كلّ من أسّس شيئًا باسم الحسين (عليه السلام) يستطيع أن يعتبره شعيرة حسينية، وتترتّب عليه أحكام الشعيرة الحسينية؟

والجواب عن هذا التساؤل: إنَّ الشعائر الحسينية ليست شرعةً لكلّ وارد، بل هي خاضعةٌ لحدود وضوابط شرعيّة.

والمستفاد من مجموع كلمات الفقهاء ومتناثرات فتاواهم المتفرِّقة: أنَّ الشعيرة الحسينية لا تتّصف بالشعارية إلّا إذا اشتملت على ثلاثة عناصر[1]:

العنصر الأول: حسينيّة الهدف. بمعنى أن يكون تأسيس الشعيرة الحسينية لا هدف من ورائه إلا الحسين (عليه السلام)، وأمّا لو كانت وراء العمل المؤسَّس مآرب أخرى فإنه لا يكون شعيرة حسينية.

ومن أجل استيضاح الفكرة بشكلٍ جيّدٍ، ننتقل من العنوان الأخصّ (الشعائر الحسينية) إلى الأعمّ (الشعائر الإلهية)، فنقول: إنَّ المسجد باتفاق المسلمين جميعًا شعيرة إلهية، وتأسيس المساجد تعظيمٌ لشعائر الله تعالى، فلا يجوز توهينها ولا إهانتها، ولكن المسجد لا يُحْكَم عليه بأنه شعيرةٌ إلهيّةٌ إلّا إذا توفّر فيه العنصر الأول، وهو إلهيّة الهدف، وأمّا إذا لم يكن الهدف من ورائه إلهيًا فلا يُحْكَم عليه بكونه شعيرة إلهية.

وهذا ما نقرؤه في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَالله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[2]، فإنَّ (مسجد ضرار) كان مسجدًا، إلّا أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن مأمورًا بتعظيمه، بل قيل له: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾[3]، ولذلك أمر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بهدمه ولم يعتبر له أدنى قيمة.

وكما أنَّ المسجد إنما يكون شعيرة إلهية إذا كان الهدف من تأسيسه إلهيًا، فإنَّ الشعيرة الحسينية لا تكون شعيرة إلا إذا كان الهدف من ورائها حسينيًا[4].

وقفةٌ مع إشكاليّة شعاريّة التباكي: وعلى ضوء ما ذكرناه، قد يقال: إنَّ (التباكي) باتّفاق الفقهاء شعيرةٌ حسينيةٌ، وقد حثّت عليه مجموعةٌ من الروايات الشريفة، منها: ما ورد عنهم (عليهم السلام): «من بكى وأبكى فينا مئة فله الجنة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنة، ومن بكى وأبكى واحدًا فله الجنة، ومن تباكى فله الجنة»[5].

ومن المعلوم أنَّ التباكي إنَّما هو تصنّع البكاء، بمعنى أنَّ المتباكي لا يعيش حالة البكاء في داخله، وإنّما يتظاهر بأنه يبكي، كمن يتصنّع الخشوع في صلاته إذا كان يصلّي مع الجماعة، والحال أنّه بينه وبين ربّه يصلي صلاةً جوفاء.

ولا يخفى أنَّ تصنّع الخشوع في الصلاة رياءٌ محرَّمٌ، فكذلك يكون تصنّع البكاء على الحسين (عليه السلام) رياءً، وبالتالي فالتباكي لا يتوفّر فيه العنصر الأوّل، وهو حسينيّة الهدف، فكيف يذكره الفقهاء في عداد الشعائر الحسينيّة؟!

التصوّر الصحيح لشعيرة التباكي: وهذه الإشكالية نابعةٌ عن فهم مغلوط لحقيقة التباكي، فإنَّنا عندما نرجع إلى تعاليم الشريعة المقدّسة نجدها تؤكِّد على التباكي وتحثّ عليه في مجموعة من الأفعال القربية والعبادية، وليس ذلك من مختصّات البكاء على الحسين (عليه السلام)، فمثلًا: ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «إن القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»[6]، فيستحب التباكي عند قراءة القرآن.

وكذلك الحال عند قراءة الدعاء، فقد ورد عن سعيد بن يسار بيّاع السابري: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أتباكى في الدعاء وليس لي بكاء! فقال: «نعم، ولو مثل رأس الذباب»[7]، أي: إذا لم تبكِ ولكنّك استطعت أن تتباكى وتصنع ولو مقدار رأس ذبابة من الدموع فاصنع ذلك.

وإذا كان التباكي أمرًا محبوبًا قد حثّت عليه الشريعة المقدسة في مجموعة من الأفعال العبادية، فلا بدَّ من توجيهه توجيهًا يتناسب مع القيم الدينيّة، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال اعتباره من ألوان الرياء، فإنَّ ذلك على خلاف مقاصد الشريعة.

وبناءً على ذلك، يمكن توجيه التباكي بأحد توجيهَيْن:

التوجيه الأول: التباكي هو دفع النفس وحثّها على البكاء. ولعلّه التوجيه الأشهر، وقد طرحه الفقيه الدربندي (قدس سره)[8].

وبيانه: إنَّ النفوس البشريّة متفاوتة، فبعضها نفوس رقيقة تتفاعل مع الحدث بسرعة فائقة، وتوجد في مقابلها نفوسٌ صلبةٌ لا تتحرّك نحو الإثارة والدمعة بصورة سريعة، ولذلك فإنَّ صاحب النفس الرقيقة بمجرد أن يسمع بمصيبة الحسين (عليه السلام) يتفاعل وتتحرّك مشاعره، فيُكْتَب له ثواب البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، وأمّا صاحب النفس الصلبة فإنّه لا يتفاعل بسهولة، فهل يُحْرَم من ثواب البكاء حينئذٍ؟!

والجواب عن هذا التساؤل: إنَّ الشارع المقدّس لم يغلق باب الثواب على أحد، بل فتح لمن لا يستطيع البكاء باب التباكي، فقال له: إذا لم تستطع البكاء في قراءة القرآن الكريم أو الأدعية أو في مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام)، فقد جعلتُ لك بدلًا، وهو التباكي، فلا تقف موقف المتفرج، بل تباكَ، أي: ادفع نفسك وحثّها على البكاء، وبذلك تحظى بثواب الباكين؛ ومن الواضح أنَّ هذا أجنبيٌ عن الرياء تمامًا.

وبعبارة أخرى: إنَّ التباكي ليس هو تصنّع البكاء وإن لم يكن المتباكي يعيش حالة الحزن في نفسه، بل هو تكلّف البكاء لمن يعيش حالة الحزن في قلبه إلّا أنّه لا يستطيع ترجمتها على أرض الواقع في صورة البكاء وسكب الدموع[9].

التوجيه الثاني: التباكي صيغة مفاعلة. وهو ما يطرحه المحدّث النوري (قدس سره) [10]، حيث يقول: إنَّ التباكي يرجع إلى صيغة التفاعل، وهذه الصيغة تعني اشتراك شخصين أو أكثر في فعل واحد، فعندما أقول: (حصل بيننا تضارب) فمعنى ذلك أنني ضربتك وأنت ضربتني، وعندما أقول: (حصل بيننا تراشق) فذلك يعني أنّني رشقتك وأنت رشقتني، وعندما أقول: (حصل بيننا تعاون) فهذا يعني أنّني أعنتك وأنت أعنتني.

والتباكي من هذا الباب، فهو بمعنى أن يجلس مجموعة من المؤمنين ويثير كلّ واحد منهم مشاعر الآخر ويحرّكه نحو البكاء، كما يحصل في المجالس الحسينية، حيث يقرأ الخطيبُ المصيبةَ، فيقول شخصٌ: وا حسيناه، ويقول آخر: وا مصيبتاه، ويجهش ثالثٌ بالبكاء، ويلطم رابعٌ على رأسه… إلخ، وهكذا يحرّك كلّ شخص الآخر ويدفعه نحو البكاء، وبذلك يتحقّق التباكي.

وعلى ضوء كلا التوجيهَيْن يتّضح أنَّ التباكي شعيرةٌ حسينيةٌ مستوفيةٌ للعنصر الأوّل من عناصر الشعيرة، ولا مساس لها بالرياء من قريب ولا من بعيد.

العنصر الثاني: حسينية المضمون. بمعنى أن يكون مضمون الشعيرة متّحدًا مع خصوصيّة الإمام الحسين (عليه السلام)، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان أمرين:

الأمر الأول: اقتران الحسين (عليه السلام) بالحزن والتفجّع. فعندما نقيس الحسين (عليه السلام) لبقية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) نجده يتميّز بميزة ليست لغيره، وهي اقتران اسمه بالمصيبة والألم والحزن والتفجّع، حيث ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «إنَّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا»[11]، فكلّما ذُكِرَ اسم الحسين شعر المؤمن بحرارة مصيبته (عليه السلام).

ولذلك ورد في الروايات الشريفة في تفسير قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾[12] أنَّ «آدم (عليه السلام) رأى ساق العرش وأسماء النبي والأئمة، فلقّنه جبرئيل (عليه السلام) قل: “يا حميد بحق محمد، يا عالي بحق علي، يا فاطر بحق فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان”، فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب»[13].

الأمر الثاني: القاسم المشترك بين الشعائر الحسينيّة. عندما نضع يدنا على الشعائر الحسينيّة واحدةً واحدةً، من بكاء ولطم وزيارة ولبس السواد وإنشاد الشعر… نجد بينها جامعًا مشتركًا، وهو الحزن والتفجّع.

ومن نماذج ذلك: البكاء واللطم، وعنوان التفجّع فيهما واضحٌ جدًا، أمّا البكاء فهو غنيٌّ عن البيان، وأمّا اللطم فهو من مصاديق الجزع، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين»[14]، والجزع -في أحد تفسيريه- هو الخروج عن الطور الطبيعي عند المصيبة، وقد ذكر الإمام الباقر (عليه السلام) بعض مصاديقه في الرواية الواردة عنه فقال: «أشدّ الجزع: الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجزّ الشعر من النواصي»[15].

ومن النماذج أيضًا: زيارة سيّد الشهداء (عليه السلام)، فإنّها تختلف عن زيارة غيره من المعصومين (عليهم السلام) من جهة اقترانها بالألم والتفجّع، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا أردتَ زيارة الحسين فزره وأنت حزينٌ مكروبٌ شعثٌ مغبرٌ جائعٌ عطشان، فإنَّ الحسين قُتِل حزينًا مكروبًا شعثًا مغبرًا جائعًا عطشانًا»[16].

ومن النماذج: إنشاد الشعر في الحسين (عليه السلام)، فإنّه لا يكون شعيرة كيفما اتّفق، بل لا بدَّ من أن يكون مقترنًا بالمصيبة والتفجّع والحزن، حيث ورد عن أبي هارون المكفوف قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام)، قال: فأنشدته، فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون -يعني بالرِّقّة- قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين * فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثم قال: زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعرًا فبكى وأبكى عشرًا كُتِبَت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كُتِبَت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى واحدًا كُتِبَت لهما الجنة»[17].

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنَّ الحسين (عليه السلام) قد اقترن بالألم والتفجّع، والجامع المشترك بين شعائره المباركة هو الحزن والمصيبة، ولذلك فإنَّ العنصر الثاني من عناصر الشعيرة هو أن يكون مضمونها مضمونًا حسينيًا مثيرًا للحزن والألم والمصيبة.

وقفةٌ مع شعارية التطبير والتبرّع بالدم: وعلى ضوء هذا العنصر، يتّضح الوجه في اعتبار التطبير –عند من يرى شعاريّته من الفقهاء– شعيرةً حسينيّةً دون التبرّع بالدم، إذ عندما نسأل هؤلاء الفقهاء: هل التبرّع بالدم باسم الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء شعيرةٌ حسينيّةٌ؟

فإنّهم يجيبون: إنَّ التبرّع بالدم في حدّ نفسه عملٌ حسنٌ، وتترتّب عليه مثوبةٌ فيما لو ترتّب عليه إنقاذ نفوس محترمة، إلّا أنّه ليس شعيرةً حسينيةً، مع أنّه لا يختلف عن التطبير من جهة كونه أمرًا حادثًا لا وجود له في زمن المعصوم (عليه السلام)، وإنّما الفرق بينهما يكمن في توفّر العنصر الثاني، فإنَّ التطبير يثير الألم والتفجّع على مأساة الحسين (عليه السلام)، بينما التبرّع بالدم لا يحرّك هذه الأحاسيس، ولذلك تنطبق ضابطة الشعيرة على التطبير – على رأي من يرى شعاريّته – دون التبرّع بالدم، وإن كان أمرًا محبوبًا في حدّ نفسه قد تترتّب عليه مثوبة، إلّا أنّه لا يعامَل معاملةَ الشعيرة الحسينيّة[18].

العنصر الثالث: حسينية الشكل والصورة. فلا يكفي في الشعيرة الحسينية أن يكون الهدف منها حسينيًا وأن يكون مضمونها حسينيًا، بل لا بدَّ من أن تكون حسينيةً من حيث الشكل والصورة أيضًا، ومن هنا نجد الفقهاء يفتون بأمرين مهمّين:

الأمر الأول: حرمة الغناء والألحان اللهوية في الشعائر الحسينية. فقد ذكر السيد الخوئي (قدس سره) ومجموعة من تلامذته في مسألة حرمة الغناء أنّه لا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة أو دعاء أو رثاء، بل الغناء حرام وإن وقع في أنشودة أو لطمية أو طور منبري[19].

ولذلك لو فرضنا أنَّ خطيبًا يستخدم في الرثاء أطوارًا لهويةً فإنَّ رثاءه لا يكون شعيرة حسينية، بل يكون حرامًا يؤثم عليه، وكذلك لو استخدم رادودٌ ألحانًا لهويةً في عزائه على سيّد الشهداء (عليه السلام)، فإنَّ هذا العزاء لا يكون شعيرة حسينية؛ لأنّه من حيث الصورة والشكل لا ينسجم مع أهداف الحسين (عليه السلام) وقيمه.

الأمر الثاني: حرمة استعمال الآلات اللهوية في الشعائر الحسينية. وهنا قد يقول قائلٌ: إنَّنا نرى في المواكب العزائية ثلاث آلات: الطبل والبوق والطوس، وعندما نرجع إلى فتاوى الفقهاء نجدهم يفتون بجواز استخدامها [20]، مع أنَّ هذا لا يلتقي مع أهداف الحسين (عليه السلام) وقيمه؛ فإنّه حارب أدوات اللهو والغناء، فكيف ينسجم الإفتاء بجواز استخدام هذه الآلات مع العنصر الثالث من عناصر الشعيرة، وهو حسينيّة الشكل والصورة؟

وللفقهاء في مقام الإجابة عن هذا التساؤل معالجتان:

المعالجة الأولى: إنَّها آلات مشتركة. وهي التي يطرحها بعض الفقهاء، ومنهم العلّامة المامقاني (قدس سره)[21]، والسيد السيستاني (دام ظله)[22]، حيث يقولون: إنَّ هذه الآلات التي تُسْتَخْدَم في المواكب العزائية ليست آلات لهوية ممحّضة في اللهوية، وإنما هي آلات مشتركة، والآلات المشتركة إذا اُسْتُخْدِمَت في غير اللهو كان ذلك جائزًا، فالطبل – مثلًا – يُسْتَخْدَم في اللهو تارة وفي غير اللهو تارة أخرى، فيجوز استخدامه في العزاء؛ لأنه استخدامٌ في غير اللهو.

المعالجة الثانية: إنَّها آلات إعلامية. وهي التي يطرحها جمعٌ من الفقهاء[23]، فيقولون: إنَّ هذه الآلات ليست آلات لهوية، وليست بآلات مشتركة أصلًا، وإنما هي آلات إعلام، فإنَّنا عندما نتتبّع تاريخ الأدوات التي تنبعث عنها الأصوات نجد أنّ هنالك بعض الأدوات التي تشبه الأدوات اللهوية إلّا أنّها لم تكن تُسْتَخْدَم للهو أصلًا، وإنّما تُسْتَخْدَم للإعلام في أحد موردين: إما في الحرب، وإما في القوافل، فكان الطبل الذي يستخدمه العرب لإعلام المحاربين ببدء الحرب يعبَّر عنه بالدَمّام، وهو يختلف عن الطبل المستخدَم في المجالس اللهوية والغنائية، وهذا الدَمّام هو الذي يُسْتَخْدَم في مواكب العزاء، فلا علاقة له باللهو أصلًا.

وأمّا البوق فهو يختلف عن المزمار، إذ البوق عبارة عن آلة إعلام تُسْتَخْدَم في الحرب أيضًا لبيان أنَّ الحرب قد بدأت أو انتهت، بينما المزمار آلة لهوية، والذي يُسْتَخْدَم في مواكب العزاء هو البوق وليس المزمار.

وأمّا الطوس – الذي قد يعبَّر عنه بـ(الصنج) – فليس آلةً لهويةً، والشاهد على ذلك: أنَّ الأصوات التي ينتجها لا تتناسب أبدًا مع مجالس اللهو، وإنّما هي أصوات تثير الحماسة، ولذلك كان يُسْتَخْدَم في الحروب لإذكاء حماسة المحاربين وتحفيزها.

وعلى ذلك، فهذه الآلات الثلاثة – بنظر بعض الفقهاء – ليست بآلات لهوية، ولا بآلات مشتركة، وإنما هي آلات إعلام كان العرب يستفيدون منها في حروبهم، فلا إشكال في استخدامها في مواكب عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام).

ومن مجموع ما ذكرناه يتّضح: أنَّ الشعائر الحسينية وإن كانت أمورًا غير توقيفية، ويمكن استحداث مصاديق جديدة لها، إلّا أنَّ ذلك ليس شرعة لكل وارد، بل لها ضوابط وحدود، بحيث لا يصدق عنوان الشعيرة على عمل أُسِّس باسم الحسين (عليه السلام) إلّا إذا كان مشتملًا على تلك الحدود والضوابط.

[1] قال المرجع الديني السيّد محمّد صادق الروحاني (دام ظله): «يعتبر في الشعيرة الحسينية ثلاثة أمور:

دلالاتها على الإمام الحسين (عليه السلام). كونها أداةً من أدوات الحزن والجزع. عدم اشتمالها على محرّم، أو استلزامها لذلك» [قربان الشهادة: ص78]. [2] سورة التوبة: 107.

[3] سورة التوبة: 108.

[4] سئل المرجع الكبير الشيخ التبريزي (قدس سره) في (الشعائر الحسينية: ص134) السؤال التالي: ما هو حكم العزاء الذي تُطْرَح فيه بعض المسائل السياسية؟ فأجاب (قدس سره): «العزاء الذي يترتّب عليه الأجر والثواب هو العزاء الذي يقام لمصيبة أهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا العزاء السياسيّ أو غيره من الأمور الدنيويّة فهو خارج عن مفهوم عزاء أهل البيت (عليهم السلام)».

ووُجِّه سؤالٌ مقاربٌ للمرجع الدينيّ المعاصر الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه)، فأجاب في موقعه الإلكتروني: «يجب عزل القضايا الحسينيّة عن المقاصد الدنيويّة السياسيّة وغيرها، كما يجب حصر هذه المواكب والشعارات المرفوعة والأشعار المقروءة والمنشورة والمنشدة فيها في دعوة الناس إلى مبدأ الحسين (عليه السلام)، وهو الالتزام بالدين وتقوى الله… ».

وفي إجابة للمرجع الديني الجليل الشيخ الفيّاض (دام ظلّه) في (الاستفتاءات الشرعية: ص468) قال: «ينبغي للمؤمنين الإخلاص في خدمتهم للإمام الحسين (عليه السلام)، وعدم فسح المجال لأن تكون المواكب المشرّفة مظهرًا من مظاهر الترويج لغير صاحبها (عليه السلام)».

[5] بحار الأنوار: ج44، ص288.

[6] بحار الأنوار: ج92، ص191.

[7] الكافي: ج2، ص483.

[8] إكسير العبادات في أسرار الشهادات: ج1، ص143.

[9] جاء في أحد أجوبة مرجع الطائفة السيّد السيستاني (دام ظلّه) المنشورة في (استفتاءات مختارة حول الشعائر الحسينيّة: ص9): «وأمّا التباكي فليس المراد به إظهار البكاء أمام الآخرين، بل هو بمعنى تكلّف الإنسان البكاءَ على ما يراه حقيقًا به، ولكنّه يواجه لحظة جفافٍ في قلبه ومشاعره، فيتكلّف البكاء عسى أن يستجيب قلبه وتتدفّق مشاعره لنداء قلبه».

[10] اللؤلؤ والمرجان: ص66.

[11] مستدرك الوسائل: ج 10، ص 318، ح 12084.

[12] سورة البقرة: 37.

[13] بحار الأنوار: ج44، ص245.

[14] أمالي الطوسي: ج1، ص162؛ بحار الأنوار: ج44، ص280.

[15] الكافي: ج5، ص554.

[16] كامل الزيارات: ص252.

[17] كامل الزيارات: ص208.

[18] قال المرجع الديني الكبير الشيخ التبريزي (قدس سره) في (الشعائر الحسينية: ص138): «لا ربط لإهداء الدم بالعزاء الحسينيّ، ولا بالتفجّع على مصيبته (عليه السلام)…»، وقال في (ص139): «هذا العمل خارجٌ عن مفهوم الشعائر، ومن يحاول ربطه بالشعائر فهو مسؤولٌ أمام الله تعالى…».

وقال المرجع الكبير السيّد محمد صادق الروحانيّ (دام ظلّه) في جوابٍ منشورٍ في موقعه الإلكتروني: «التبرّع بالدم لمن يحتاج إليه من الأعمال الحسنة – سيّما إذا صار سببًا لحياة إنسان وعدم هلاكه – ولكنّه ليس من الشعائر الحسينيّة…».

[19] صراط النجاة: ج1، ص369، سؤال 1008؛ منهاج الصالحين للسيد السيستاني (دام ظلّه): ج2، ص13، مسألة 20.

[20] الفتاوى للمحقّق النائيني (قدس سره): ج3، ص577؛ صراط النجاة: ج1، ص376، سؤال 1033.

[21] قال (قدس سره) في رسالته الشريفة (المواكب الحسينيّة) – المطبوعة ضمن موسوعة (رسائل الشعائر الحسينيّة: ج1، ص231): «المحرّم ليس نفس الآلة، ولا استعمالها بأيّ نحوٍ كان، بل المحرّم إنَّما هو ضربها على الكيفيّة الملهية، فحال تلك الآلات حال حنجرة الإنسان، فالصوت الذي يخرج منها على نحو الغناء حرامٌ، والخارج منها لا على تلك الكيفيّة ليس بحرام».

[22] فقد سئل في موقعه الإلكتروني: ما حكم استعمال الطبل والبوق ونحوهما من الآلات في مواكب العزاء؟ فأجاب: «لا مانع من استخدامها في مواكب العزاء ونحوها على الطريقة المتعارفة مع كونها من الآلات المشتركة وليست من آلات اللهو المحرم».

[23] الفتاوى للشيخ النائيني (قدس سره): ج3، ص577؛ الآيات البيّنات للشيخ كاشف الغطاء (قدس سره): ص9؛ المسائل الشرعية للسيد الخوئي (قدس سره): ج2، ص336؛ الشعائر الحسينيّة للشيخ التبريزي (قدس سره): ص86، ص104.


طباعة   البريد الإلكتروني