دفع الشبهات عن روايات ثواب شعيرة البكاء

(وقت القراءة: 8 - 15 دقائق)

200704 210030

إنَّ الروايات التي تحدثت عن ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) كثيرة جدًا، وعلى طوائف مختلفة، وبألسنة متعددة ومثيرة للغاية، وقد بيَّنت الروايات بعض مظاهر ثواب البكاء باعتباراتٍ مختلفة ومتعددة؛ نظرًا لكون كلِّ الثواب مما يتعذر إحصاؤه، ولا بدَّ من عرض هذه الروايات أولًا، ثمَّ التعقيب عليها ببيان وجه الإشكال فيها.

الرواية الأولى: عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خديه بوّأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا»[1].

الرواية الثانية: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) دمعة حتى تسيل على خده بوأه الله بها في الجنة غرفًا يسكنها أحقابًا»[2].

الرواية الثالثة: عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَن ذُكِرَ الحسين عنده فخرج من عينه من الدمع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة»[3].

الرواية الرابعة: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»[4].

الرواية الخامسة: عن الإمام الرضا (عليه السلام): «فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنَّ البكاء عليه يحطُّ الذنوب العظام»[5].

الرواية السادسة: عن الريان بن شبيب، عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «يا بن شبيب إن بكيت على الحسين (عليه السلام) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيرًا كان أو كبيرًا، قليلًا كان أو كثيرًا»[6].

والمتحصّل من هذه الروايات وأمثالها: أنَّ ثواب البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) يتنوع بين غفران الذنوب – مهما كانت – ودخول الجنة ونحو ذلك.

وإذا عرفتَ ذلك فإنه يُطرح على هذه الروايات ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأول: إشكال الإغراء. محصلّه: أنَّ هذه الروايات لا يمكن قبولها؛ لأنَّ لازمها إغراء المؤمنين وخديعتهم، بداهةَ أنَّ الناس لو اعتقدوا أنَّ البكاء على الحسين (عليه السلام) يغفر كافة الذنوب – كما هو مفاد بعض الروايات المتقدِّمة – فإنَّ هذا يفتح أمامهم باب الإغراء بالمعصية، فيقدمون على اقترافها تعويلًا على ما سينالهم من المغفرة ببركة بكائهم على سيد الشهداء (عليه السلام)، فلا محيصَ عن الحكم ببطلان روايات ثواب البكاء.

الجواب عن الإشكال الأول: ويمكن أن يُدفع هذا الإشكال ببيان جهتين:

أ/ الجهة الأولى: الجهة النقضية. وتوضيحُ هذه الجهة: أنه من الممكن أن يُنقض على هذا الإشكال بالقرآن الكريم؛ إذ أنَّ ذات المضمون الموجود في الروايات الحاثة على البكاء موجودٌ أيضًا في بعض آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾[7]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾[8].

فإنه كما أنَّ روايات ثواب البكاء قد ضمنت غفران الذنوب للباكين، كذلك هاتان الآيتان قد ضمنتا غفران الذنوب لمن اجتنب الكبائر، ولمن لم يُشرك، فهل يصح أن يقال حينئذ: إنَّ هاتين الآيتين الكريمتين أيضًا محرّفتان – مثلًا – لأنهما موجبتان لإغراء المؤمنين إما باقتراف خصوص صغائر الذنوب؛ باعتبار أنَّ اجتناب سائر الكبائر يُكفّرها، وإما باقتراف سائر الذنوب – كبيرها وصغيرها – لأنَّ عدم الشرك موجب لتسامح الله تعالى عن سائر الذنوب سواه؟!

وكلُّ ما يُجاب به عن هذا الإشكال المتوجِّه إلى هاتين الآيتين الكريمتين فهو نفسه الجواب عن روايات ثواب البكاء؛ إذ أنَّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

ب/ الجهة الثانية: الجهة الحَلّية. وهنالك إجابتان ترجعان إلى هذه الجهة:

الإجابة الأولى: إنَّ هذه الروايات التي تتحدث عن ثواب البكاء، وأنه غفران الذنوب أو الجنة، لا يستفاد منها: أنَّ البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) علةٌ تامةٌ للفوز بالجنة كنتيجةٍ قطعية ومصير نهائي للباكين عليه (عليه السلام)، وإنما هو مؤثر في النتيجة المذكورة على نحو الاقتضاء؛ باعتبار أنَّ النتيجة المذكورة متوقفة على أمور وعوامل أخرى أيضًا.

فيكون تأثير البكاء في غفران الذنوب والفوز بالجنة نظير تأثير النار في الإحراق، فكما أنَّ النار لا تُحرِق إلا مع تحققِ الشرط – وهو اقتراب الجسم المحترق منها – وارتفاعِ المانع – وهو الرطوبة – كذلك أيضًا ليس يؤثر البكاء أثره إلا مع تحقق بقية الشروط وارتفاع الموانع، وعلى هذا فلا يمكن الاتكاء على البكاء فقط، مع اجتناب سائر الواجبات وارتكابِ سائر المحرمات.

وبهذه الإجابة يُجاب عن أكثر الروايات والأحاديث التي تضمنت مثل هذا النحو من الجزاء، كالواردة بلسان: (مَن فعل كذا فله الجنة) أو (غفر الله ذنوبه) ونحو ذلك.

الإجابة الثانية: إنَّ تأثير البكاء في غفران الذنوب والفوز بالجنة، حتى لو كان على نحو العلية التامة، إلا أنه لا يوجب الإغراء بالمعصية؛ وذلك لعدم ضمان العاصي بقاء وجوده بعد المعصية حتى وقت التمكن من إحياء شعيرة البكاء.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ احتمال الإنسان لمباغتة الموت له في أيِّ لحظةٍ من لحظات حياته، يمنع من الإقدام على فعل المعصية برجاء تعقيبها بالبكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) الموجب لمحوها وغفرانها؛ إذ لعلَّ العاصي يباغته الموت حال المعصية أو بعدها فورًا، قبلَ أن يبكي على الإمام الحسين (عليه السلام) فتغفر ذنوبه، وهذا ما يحول دون تسبب أخبار ثواب البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) في الإغراء بالمعصية.

ويمكن تقريب الفكرة بالأحاديث التي تتحدث عن ثواب الحج، فإنَّ بعضها صريحٌ في سببية الحج لغفران الذنوب جميعًا، كقول الإمام الصادق (عليه السلام): «فإذا وقف بعرفات، فلو كانت له ذنوبٌ عددَ الثرى رجعَ كما ولدته أمه»[9].

وهذه الرواية – كما ترى – صريحة في كون أثر الحج هو غفران ذنوب الحاج، ولكنَّ هذا لا يوجب الإغراء بالمعصية؛ وذلك لعدم تكفل هذه الرواية وأمثالها بضمان الحياة للإنسان العاصي حتى يتمكن من أداء فريضة الحج المباركة، وهكذا يقال بالنسبة لروايات ثواب البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام).

الإشكال الثاني: عدم التناسب بين حجم العمل وحجم الجزاء. الإشكال الثاني المُثار حول روايات ثواب البكاء هو: عدم الانسجام بين مقدار العمل ومقدار الجزاء المذكور فيها، فقول الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»[10]، يُستفاد منه أنَّ العمل البسيط الذي لا يتجاوز دمعةً بمقدار جناح البعوض يترتب عليه جزاء كبير جدًا، وهو غفران الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، ومن الواضح أنَّ عدم التناسب بين مقدار العمل ومقدار الجزاء شاهدٌ بكون هذه الروايات مكذوبة على الأئمة (عليهم السلام) [11].

الجواب عن الإشكال الثاني: وقد ذُكرتْ ثلاث إجابات عن هذا الإشكال:

1/ الإجابة الأولى: التقييد الأزماني. ما أجاب بها بعض المعاصرين، وحاصلها: أنَّ روايات ثواب البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) ليس لها إطلاق زماني، بل هي روايات محدودة بفترة زمنية محددة، وهي الفترة التي كانت تسيطر فيها الحكومتان الأموية والعباسية، حيث كانت في ظلّهما تُحارَب الشعائر الحسينية، وتتعرض إلى أقسى حملات المواجهة العنيفة.

فكان البكاء في تلك الحقبة الزمنية يعدُّ نوعًا من الجهاد في سبيل ترسيخ الشعائر الدينية؛ ولأجل كونه جهادًا ترتب عليه الجزاء الكبير، الذي أوضحته الروايات المتقدمة[12].

مناقشة الإجابة الأولى: ويُلاحظ على هذه الإجابة:

أولًا: إنَّ جُلَّ روايات ثواب البكاء – إنْ لم نقل: كلها – مطلقةٌ من حيث الزمان، بحيث تشملُ جميع الأزمنة حتى يوم القيامة، فتقييدها بزمانٍ معين يحتاج إلى دليل، وهو مفقودٌ في المقام؛ إذ ما جاء في كلمات أصحاب هذه الإجابة لا يتجاوز دائرة الاستحسان، والاستحسانُ لا يرقى إلى مستوى الدليل، بل هو مجرد ظنٍّ – إنْ لم يكن وهمًا – لا يغني عن الحق شيئًا.

وثانيًا: إنَّ هنالك طائفة من روايات ثواب البكاء ينطبق عليها ما يذكره علماء الأصول: مِن أنها رواياتٌ تأبى التقييد، ومرادهم من ذلك الروايات المطلقة التي يأبى لسانُ الإطلاقِ فيها التقييدَ بأيِّ مقيّدٍ كان، كما لو كانت نصًّا في الإطلاق[13].

ومن تلك الروايات المطلقة الآبية عن التقييد: ما وردَ عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مخاطبًا الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام): «يا فاطمة، إنَّ نساء أمتي يبكين على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلًا بعد جيل في كلِّ سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين (عليه السلام) أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، يا فاطمة، كل عين باكية يوم القيامة، إلا عين بكت على مصاب الحسين؛ فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة»[14].

وهذه الرواية الشريفة – كما ترى – صريحة جدًا في أنَّ كل باكٍ على سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) على طول الزمان، وجيلًا بعد جيل، مشمول لشفاعة النبي والصديقة الزهراء (عليها السلام)، وجزاؤه الجنة، ومثل هذه الرواية – لكونها نصًّا في الإطلاق الزماني – يمتنع حملها على خصوص زمن الحكومتين الأموية والعباسية؛ لكون إطلاقها – كما قد اتضح – من سنخ الإطلاق الذي يأبى التقييد.

ثالثًا: إنَّ مجرّد ظهور وسائل جديدة في زماننا لإدانة الظالمين وإظهار مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، لا يعني أنَّ دور الدمعة قد اندثر أو تقلّص، بل لا زالت الدمعة على الحسين (عليه السلام) وسيلةً صارخةً لإدانة الظالمين وأسلوبًا مفجعًا لإثارة مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، فهي لا زالت تقوم بنفسه دورها الفاعل الذي كانت تقوم به في زمن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)[15].

2/ الإجابة الثانية: التفريق بين المعادلة الإلهية والمعادلة البشرية. وحاصلها: أنَّ الإشكال خاطئ من أساسه؛ لأنه مبني على المعادلة البشرية العقلائية القائمة على المساواة بين الجزاء والعمل، والحال أنَّ المعادلة الإلهية على خلاف ذلك، كما تشهد بذلك الآيات القرآنية المباركة، كقوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾[16]، وقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[17]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ﴾[18].

فظهرَ من خلال هذه الآيات الشريفة: أنَّ المعادلة الإلهية – في مسألة العمل والجزاء – مختلفة تمامًا عن المعادلة البشرية، فإنَّ المعادلة الإلهية قائمة على أن الجزاء ليس محدودًا بمقدار العمل القربي، بل يكون أضعافًا مضاعفة له، بينما المعادلة البشرية قائمة على المساواة بينهما، وقد خلطَ صاحب الإشكال بين المعادلتين، فبنى إشكاله على المعادلة البشرية، والحال أنَّ ما نحن فيه من موارد المعادلة الإلهية؛ لكون البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) واحدًا من الأعمال العبادية القربية، التي يكافئ الله تعالى عليها بما تتعلق به مشيئته من الثواب.

3/ الإجابة الثالثة: ضرورة ملاحظة العناوين المترتبة على العمل. وحاصلها: أنَّ الجزاء الإلهي لا يترتب على العمل بمفرده، بل يترتب على العمل بما له من الآثار والعناوين المترتبة عليه، وبالتالي فقد يكون العمل في حدِّ ذاته بسيطًا، ولكن آثاره والعناوين المنطبقة عليه تكون كبيرة.

ومثال ذلك: قول الإمام الصادق (عليه السلام): «من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة»[19]، فإنَّ قول (لا إله إلا الله) في حدِّ نفسه قد يبدو عملًا بسيطًا، ولكنه بلحاظ ما يترتب عليه من آثار وعناوين، كالمساهمة في نشر كلمة التوحيد وترسيخها، وتكثير سواد أهل الإسلام، يكون عملًا كبيرًا جدًا.

ومن هذا الباب أيضًا: قول الإمام الصادق (عليه السلام): «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة: الصلاة على محمد وأهل بيته»[20]، فإنَّ الصلاة على محمد وآله – كمجرد ذكرٍ في اللسان – قد تبدو عملًا بسيطًا، ولكنَّ هذا العمل البسيط له أثرٌ عظيمٌ جدًا، وتترتب عليه عناوين كبيرة، كعنوان الولاء لآل محمد (عليهم السلام)، في مقابل لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، الذي يترتب عليه عنوان البراءة من أعدائهم، ومما لا إشكال فيه ولا شبهةَ تعتريه أنَّ عنوان الولاء لآل محمد (عليهم السلام) من أكبر العناوين وأهمها؛ لأنه مساوقٌ لعنوان الإيمان، فلا بدعَ في ترتب كلِّ ذلك الثواب عليه.

وهكذا هو البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) أيضًا، فإنَّ الدمعة عليه التي تكون بمقدار جناح الذباب، وإن كانت عملًا بسيطًا، إلا أنَّها من العناوين التي تترتّب عليها آثار كبيرة جدًا، فإنها عنوان الانتماء للحسين (عليه السلام) ونهجه وقيمه ومبادئه، كما أنها صرخة مدوّية في وجه كلِّ المحاربين لشعائر سيد الشهداء (عليه السلام) الذين يتواجدون في كلِّ زمان ومكان، وبالتالي فهي من حيث الآثار كبيرة جدًا، فلا بدعَ أن يترتب عليها من الثواب ما هو أكبر وأكبر.

والمحصّلة النهائية: أنَّ إشكال عدم الانسجام بين مقدار العمل ومقدار الجزاء إشكال منقوض ومدفوع بالبيان الذي أوضحناه.

الإشكال الثالث: مشابهة روايات البكاء لعقيدة الفداء المسيحي. وحاصله: إنَّ ما يعتقد به الشيعة -من أنَّ البكاء على الحسين (عليه السلام) يغفر الذنوب ولو كانت بمقدار زبد البحر- أصوله مسيحية؛ فالمسيحيون يعتقدون بأنَّ الله تعالى قد بعث عيسى (عليه السلام) ليكون فداءً للبشر، والشيعة يعتقدون في الحسين (عليه السلام) ذلك أيضًا، حيث قُتِل ليخلّصهم من ذنوبهم وخطاياهم!!

الجواب عن الإشكال الثالث: وهذه المقايسة واضحة البطلان؛ فإنَّ المسيحيين يعتقدون بأنَّ الله تعالى قد بعث عيسى (عليه السلام) ليكون فداءً لخطايا البشر، بينما لا يعتقد الشيعة في الحسين (عليه السلام) ذلك، وإنَّما يعتقدون أنّه فدى بنفسه الطاهرة دين جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ولا يوجد شيعي يعتقد بأنَّ الحسين (عليه السلام) قد بذل نفسه من أجل ذنوب شيعته، فقياس عقيدة الشيعة على عقيدة النصارى جناية كبرى على الشيعة والتشيع.

ثم إنَّ النصارى يعتقدون بأنَّ جميع ذنوبهم – حتى المقترنة بالاستهتار – مغفورة، حيث يقولون: إذا اعتقدتَ بصلب المسيح وأنه ابن الله فافعل ما شئت!

بينما الشيعة يقولون: إنَّ البكاء على الحسين (عليه السلام) يغفر الذنوب العظام، لكن ليست المقترنة بهتك حرمات الله مع الجرأة والإصرار، بل الذنوب التي تصدر من الإنسان بحكم طبيعته البشرية فيرجع عنها ويندم عليها، فمثل هذه الذنوب تغسل آثارها دمعاتُ الإنسان على الحسين (عليه السلام)؛ لأنّه باب الرحمة الإلهية ووسيلة النجاة، وله الشفاعة الكبرى في يوم القيامة، وإن كان هو (عليه السلام) لم يضحِ بنفسه من أجل هذه الشفاعة، وإنما هي مقامٌ أُعْطِيَ له كبقية المقامات في قبال ما بذل لهذه الشرعة الغراء.

فيبقى البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) قنطرة الغفران، ووسيلة التقرب إلى الله، والوصول إلى الجنة؛ ولهذا كان الأنبياء (عليهم السلام) – كما جاء في الروايات المستفيضة – ومنهم نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) يتقرّبون إلى الله بالبكاء على الحسين (عليه السلام) مِن قبل مقتله.

الهوامش: [1] وسائل الشيعة ج14، ص501، باب استحباب البكاء لقتل الحسين (عليه السلام) وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام)، ح3.

[2] وسائل الشيعة، ج14، ص509، باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصًا يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة، وتحريم التبرك به، ح18.

[3] وسائل الشيعة: ج14، ص507، ح14.

[4] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج44، ص278، باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة، ح3.

[5] وسائل الشيعة، ج14، ص504، باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصًا يوم عاشوراء واتخاذه يوم مصيبة، وتحريم التبرك به، ح8.

[6] وسائل الشيعة: ج14، ص502، ح5.

[7] سورة النساء: 31.

[8] سورة النساء: 116.

[9] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج99، ص315، باب الرجوع من منى إلى مكة للزيارة، وفيه أحكام النفرين.

[10] بحار الأنوار: ج44، ص278، باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة، ح3.

[11] ممّن طرح هذا الإشكال: السيد هاشم معروف الحسني في كتابه (الموضوعات من الأخبار والآثار: ص170، 173).

[12] تجاربي مع المنبر: ص212، وممن حملَ هذه الروايات على ذلك أيضًا: الشيخ محمد باقر البهبودي في حاشيته على الجزء الرابع والأربعين من موسوعة (بحار الأنوار) ص293.

[13] الفرق بين النص والظاهر: أنَّ دلالة الكلام على معنى معين إذا كانت لا تحتمل الخلاف مطلقًا، فهي نصٌّ في المطلوب تفهيمه، وإذا كانت تحتمله احتمالًا مرجوحًا، فهي ظاهرةٌ في المطلوب، ويتّضح الفرق بالمثال، فحين يقول المولى مثلًا: (تجب عليك الصلاة، ويحرم تركها) يكون كلامه دالًا على وجوب الصلاة دلالةً نصّيةً، بينما عندما يقول: (أقم الصلاة) يكون كلامه دالًا على وجوب الصلاة بالدلالة الظهورية؛ إذ هنا يوجد احتمال الخلاف (وهو الاستحباب) وإن كان احتمالًا مرجوحًا، بينما هنالك لا يوجد هذا الاحتمال.

[14] عوالم العلوم (الإمام الحسين (عليه السلام)): ص534.

[15] وللشهيد المطهّري (قدس سره) في هذا الصدد كلمةٌ مهمّةٌ قال فيها: «في حين أنَّ القطرة من الدمع -في ظرفٍ يكون الإمام الحسين (عليه السلام) ومنهجه القويم هو المعيار الصحيح، لكشف النظام الاجتماعيّ الحاكم على الناس بغير حقٍّ، وتعرية مكائده ودسائسه وجرائمه ومظالمه- تكون تعبيرًا عن وقوف الإنسان الباكي بجانب الإمام الحسين (عليه السلام)، وإعلانه الصريح بأنّه الجنديّ الوفيّ له.

وفي الظروف التي يتحكّم فيها نظامٌ يزيديٌّ، ويتظاهر الإنسان بالبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّه يعلن بتباكيه هذا وقوفه إلى [جانب] معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، وولائه لأهل الحقّ، وحربه على أهل الباطل، وهو في الواقع تضحيةٌ وإيثارٌ» [فتاوى علماء الدين حول الشعائر الحسينية: ص189].

[16] سورة الأنعام: 160.

[17] سورة البقرة: 245.

[18] سورة الشورى: 23.

[19] وسائل الشيعة: ج15، ص256، باب وجوب اجتناب المحارم، ح12.

[20] وسائل الشيعة، ج7، ص197، باب كيفية الصلاة على محمد وآله، ح3.


طباعة   البريد الإلكتروني