هوية المآتم الحسينية في دعاء الندبة

(وقت القراءة: 7 - 13 دقائق)

2800 من جملة الدعاوى التي يكثر طرحها: الدعوة إلى تنزيه المآتم الحسينيّة عن الصراخ والعويل، والاكتفاء بالبكاء الهادئ.

وهذه الدعوى على خلاف تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) الواردة عنهم في روايات متعدّدة، ومن جملتها: ما ورد عن سيّدنا وإمام زماننا الحجّة (عجل الله فرجه) في دعاء الندبة: «فعلى الأطائب من أهل بيت محمّد وعليّ صلوات الله عليهما وآلهما فليبكِ الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضجّ الضاجّون، ويعجّ العاجّون، أين الحسن، أين الحسين، أين أبناء الحسين».

وقبل أن نتناول هذه الفقرات الشريفة بالتحليل، لا بدَّ من بيان مقدّمتين:

المقدمة الأولى: القيمة الاعتبارية لدعاء الندبة. أوّلًا: لقد أورد الشيخ ابن المشهدي – من علماء الإمامية في القرن السادس، بل من أجلّة المحدّثين – دعاء الندبة في كتابه (المزار)، وقد قال في مقدّمة كتابه: «فإنّي قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد المشرفات، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات، وما يدعى به عقيب الصلوات، وما يناجي به القديم تعالى من لذيذ الدعوات في الخلوات، وما يلجأ إليه من الأدعية عند المهمات، ممّا اتصلت به من ثقات الرواة إلى السادات»[1].

وهذا يعني أنَّ ما يتضمّنه كتاب المزار كلّه مرويٌ بأسانيد متّصلة موثّقة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ولذلك ما اشتمل عليه هذا الكتاب من الأدعية والزيارات له اعتبارٌ خاصٌ عند الأعلام، ومنها: دعاء الندبة.

ثانيًا: قبل أن يورد الشيخ المشهدي (قدس سره) دعاء الندبة بيّن مصدره، فقال: قال محمد بن أبي قرّة: إنّي وجدتُ في كتاب أبي جعفر محمّد بن الحسين البزوفري (رضي الله عنه) هذا الكتاب، وذكر أنه لصاحب الزمان (عجل الله فرجه).

وعندما نراجع أحوال محمد بن أبي قرّة نجد أنَّه كان متخصِّصًا في أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، وله مؤلَّفاتٌ فيها، وهو من ثقات الإمامية الذين وثّقهم الأعلام[2]، وقد نقل الدعاء عن البزوفري، وهو أستاذ الشيخ المفيد (قدس سره)، وهو من الأعلام الذين لا يرد ذكرهم إلا مقرونًا بالترضّي والترحّم[3]، وقد كان معاصرًا لزمن الغيبة الصغرى، وذكر أنَّ هذا الدعاء لصاحب الزمان (عليه السلام).

فهذا الدعاء له اعتبارٌ خاصٌ لأنه منقولٌ عن أثبات عاصروا الغيبة الصغرى، ووصل إليهم هذا الدعاء من المتّصلين بالإمام الحجّة (عجل الله فرجه).

المقدمة الثانية: الهدف من دعاء الندبة. عندما نضع أيدينا على الأدعية التي وصلتنا في الكتب السماوية، أو أدعية المسلمين التي لا ترجع لأدعية أهل البيت (عليهم السلام)، ونقارنها بأدعيتهم (عليهم السلام)، نجد أدعيتهم (عليهم السلام) مدرسةً مختلفةً تتميّز بميزة لا توجد في غيرها، وهي أنَّ بقية الأدعية مسوقة لهدف واحد، وهو المناجاة، بينما أدعية أهل البيت (عليهم السلام) تشتمل على نوعين من الأهداف: أهداف صريحة ومباشرة، وأهداف ضمنية غير مباشرة.

فالهدف الصريح الذي يجمع بين أدعية أهل البيت (عليهم السلام) على اختلافها هو المناجاة، إذ الإمام عندما يؤسّس دعاءً فهدفه المباشر مناجاة الله تعالى.

وإلى جانب هذا الهدف توجد أهداف ضمنية تتعدد بتعدد الأدعية وتختلف باختلافها، فمثلًا: دعاء الحسين (عليه السلام) يوم عرفة له هدفٌ صريحٌ، وهو مناجاة الله، وجميع من سمعه يوم عرفة قد تفاعل معه، وما انتهى سيّد الشهداء (عليه السلام) من دعائه إلا ببكاء جميع من كان على صعيد عرفة، وهذا هدف مباشر وصريح.

لكنّ هناك هدفًا ضمنيًا اشتمل عليه دعاء عرفة، وهو بيان المعرفة التوحيدية بدقائقها وتفاصيلها، فالحسين (عليه السلام) في الوقت الذي كان يناجي الله تعالى كان يبيّن من خلال هذه المناجاة أعمق المعارف التوحيدية، وهذه القدرة على اختزال الأهداف الضمنية في الأدعية والمناجاة هي من معاجزهم (عليهم السلام).

والأهداف الضمنية تتعدّد بتعدّد الأدعية، فدعاء عرفة ودعاء الندبة يجمعهما هدف صريح، وهو المناجاة، لكن الهدف الضمني متعدّد، إذ الهدف الضمني في دعاء عرفة -كما ذكرنا- هو بيان المعرفة التوحيدية بدقائقها، بينما الهدف الضمني في دعاء الندبة هو ترسيخ مظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا أراد الإنسان أن يتعرّف على مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) ومبدئها ومنتهاها، ولماذا تحقّقت؟ وما هي الأسباب الدخيلة فيها؟ فما عليه سوى أن يقرأ دعاء الندبة بتمعّن، فقد تكفّل ببيان كلّ ذلك، والملفت أنَّ الإمام (عليه السلام) قد أوصى بقراءة هذا الدعاء في كلّ جمعة، وفي جميع الأعياد، من أجل أن تبقى ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) راسخةً متجذّرةً في النفوس.

وبعد هاتين المقدّمتين، نتناول فقرات دعاء الندبة المتقدّمة من ثلاث جهات:

الجهة الأولى: عرض الشعائر التي حثّ عليها الدعاء. وهي ستّ شعائر سنتناولها واحدةً تلو الأخرى:

الشعيرة الأولى: البكى «فليبكِ الباكون». قد يتبادر للذهن أنَّ البكاء هو ذرف الدموع، ولكنّ الصحيح أنَّ له معنيين:

المعنى الأول: الحزن في مقابل السرور. المعنى الثاني: سكب الدموع في مقابل الضحك. فالسرور حالة نفسانية، وما يقابله من الحالات النفسية يعبَّر عنه بالبكاء، وهو الحزن والتوجّع والألم النفساني، وأما المعنى الثاني للبكاء فليس حالة نفسانية، بل هو فعل يقابل فعلًا، إذ الضحك فعل، ويقابله سكب الدموع وإراقتها، فالبكاء قد يطلَق على الفعل، أي إراقة الدموع، وقد يطلَق على الحالة النفسانية، أي الحزن، وهذا هو الفرق المعنوي بين هذين المعنيين.

وأما الفرق اللفظي: فهناك (بكاء) ممدود، وهناك (بكى) مقصور، فالبكاء الممدود يطلَق على إراقة الدموع، بينما الحالة النفسانية يعبّر عنها بالبُكَى[4].

وقول الدعاء: «فليبكِ الباكون» يراد به المعنى الأول، وهو الحالة النفسانية؛ لئلا يلزم محذور التكرار، حيث قال: «فليبكِ الباكون» ثم قال: «وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع»، ولو فسّرنا البكاء بالفعل -وهو سكب الدموع- للزم التكرار، والتكرار لغير حاجة من العيوب اللغوية التي لا يمكن أن تصدر عن المعصوم (عليه السلام)، فالمراد من هذه الفقرة إعلان الحزن والألم النفساني والتفجّع والتوجّع.

الشعيرة الثانية: الندبة «وإياهم فليندب النادبون». وهي ذكر المندوب عليه أو ذكر آثار فقده أوّلًا، مع التفجّع والتوجّع ثانيًا، بلحنٍ يناسب النوح والحزن ثالثًا، من قبيل قول: (وا حسيناه، وا مصيبتاه)، وقد حثّ أهل البيت (عليهم السلام) على هذه الشعيرة الصوتيّة في روايات عديدة، وسوف نتناولها بالتفصيل في الفصل السادس إن شاء الله تعالى.

الشعيرة الثالثة: ذرف الدموع «ولمثلهم فلتذرف الدموع». وقد تحدّثنا عن شعيرة البكاء بالتفصيل في الفصل الثالث، ولكن لا بأس هنا بتسليط الضوء على نقطة قد يُغْفَل عنها، وهي أنَّ الإنسان المؤمن عندما يتفاعل مع مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام) ويبكي فهو لا يحصي مقدار ما خرج منه من الدموع، ولكنّ كلّ دمعة من تلك الدموع لها عند الله تعالى أثر خاص.

فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من ذكرنا أو ذُكِرْنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»[5]، فشبّه الذنوب بزبد البحر، وهذا التشبيه عجيبٌ جدًا؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ زبد البحر عبارة عن ظاهرة واضحة على سطح البحر بسبب تحرّك الأمواج، وهي تتميّز بميزتين: الكثرة والاستمرار، فإنَّ زبد البحر كثير بكثرة ماء البحر، كما أنّه مستمر لا ينقطع ما دامت الأمواج تتحرّك.

فهنا الإمام (عليه السلام) يقول: من كانت ذنوبه كزبد البحر في كثرتها واستمرارها، إذا جاءته أيام الحسين (عليه السلام) وحضر في المآتم تائبًا من ذنوبه، صادقًا في توبته، وجرت دموعه على سيّد الشهداء (عليه السلام)، غُفِرَت له كلّ تلك الذنوب بدمعة بمقدار جناح البعوض! فكيف لو تكاثرت الدموع وتواترت وتراكمت؟! لا يمكن بيان الأثر المترتّب عليها حينئذٍ، والإمام لم يبيّنه لأنّ العقول لا يمكن أن تستوعبه.

ولذلك اختصره الإمام في عبارة فقال: «مَن ذُكِرَ الحسين عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله، ولم يرض له بدون الجنة»[6]، أي أنَّ الأجر المتيقّن للدمعة هو الجنّة، وأما لو تكثّرت الدموع وتكرّرت وتراكمت فما هو أجرها حينئذٍ؟! ينقطع اللسان، فهو أجرٌ لا يعلمه إلا الله تعالى.

الشعيرة الرابعة: الصراخ «وليصرخ الصارخون». والصرخة هي الصيحة المرتفعة عند الفزع أو المصيبة[7]، وقد يقال: إنَّ الصياح المرتفع على خلاف الوقار! وكلّ شخص له مقام اعتباري يصبح له جاه عند الناس، وحتى يحافظ على ذلك الجاه لا بدَّ من أن يلتزم بوقار معيّن، فالطبيب له وقاره، والمهندس له وقاره، والشاعر له وقاره، والعالم له وقاره، وهكذا.

ولكنّ جميع هذه الوقارات والمقامات والجاهات والمناصب تندكّ ولا قيمة لها بين يدي سيّد الشهداء (عليه السلام)، فالإنسان في الوضع الطبيعي يحافظ على وقاره فلا يصرخ، لكن عندما يأتي إلى المأتم الحسيني فهو وغيره سواء، فيصرخ كما يصرخون، مهما كان منصبه وجاهه ووقاره، فإنَّ كلَّ ذلك يتهاوى بين يدي الحسين (عليه السلام).

الشعيرة الخامسة: الضجيج «ويضجّ الضاجّون». عندما نرجع إلى اللغة العربية نجد فيها ما يعبَّر عنه بـ(أسماء الأصوات)، حيث كان العرب يطلقون على كلّ صوت اسمًا معيّنًا، ومن ذلك: اسم الضجيج، وهذا الاسم يريد به العرب: الصيحة عند المشقّة والتعب[8]، فعندما يجهد الإنسان حنجرته ويتعب، أو ينهك قواه الأخرى ويستنزف طاقته، ويبدأ يصرخ ويصيح مع التعب والإنهاك، فإنَّ ذلك يعبّر عنه بالضجيج.

الشعيرة السادسة: العجيج «ويعجّ العاجّون». والعجيج من أسماء الأصوات أيضًا، وهو الصوت المثير للرهبة، فالريح إذا كانت شديدة الهبوب ومثيرة للغبار يعبَّر عن صوتها بالعجيج، وعندما تقف أمام البحر ويكون له أمواج تتلاطم وصوت صاخب يعبَّر عن ذلك بالعجيج أيضًا، والقوس الممتدّة المرتفعة عندما تصدر صوتًا عند إطلاق السهم يعبّر عنه بالعجيج، فهذه كلّها أصوات مثيرة للرهبة[9].

ولذلك عندما نظر الإمام الصادق (عليه السلام) للحجيج قال: «ما أكثر الضجيج والعجيج وأقلّ الحجيج»[10]، فعبّر عن صوت الحجيج بالعجيج لأنّ الحجّاج إذا اتّفقت أصواتهم على التلبية (لبّيك اللهم لبّيك) فإنَّ هذا الصوت يثير الرهبة عند من يسمعه.

الجهة الثانية: طولية هذه الشعائر وتراتبيّتها. إنَّ كلّ واحدة من هذه الشعائر الستّ تمهّد للشعيرة اللاحقة، فأوّل شعيرة مطلوبة من الإنسان هي البكى بمعنى الحزن، أي: أن يهيّئ نفسه في أيام عاشوراء بأن يكون مستشعرًا للحزن والألم.

فإذا تحقّقت هذه الشعيرة يأتي السؤال: هل يكفي أن أعيش الحزن داخلي، أم لا بدّ لهذا الحزن من إبراز وإفصاح وتحقيق في الخارج؟ فيجيب الإمام (عليه السلام): لا يكفي الحزن الداخلي، بل لا بدَّ من أن تفصح عنه وتترجمه عبر الندبة، فأفصح عنه وأبرزه للخارج من خلال كلمة (وا حسيناه، وا مصيبتاه)، فالندبة مترتّبة على الحزن.

وبعد الندبة تأتي الدموع، فنحن عندما نجلس في مجلس واحد، ويقول أحدنا: وا حسيناه، ويقول آخر: وا قتيلاه، وثالث: وا مصيبتاه، فحينئذٍ تتحرّك الأرضية للدموع وسكبها على الحسين (عليه السلام)، فالندبة محرّكة للمشاعر ومثيرة للدموع، ولذلك قال الإمام (عليه السلام): وإياهم فليندب النادبون، ثم قال: ولمثلهم فلتذرف الدموع.

ولا يكفي البكاء، بل المطلوب أن يتصاعد البكاء من خلال الصرخة، فعندما تصرخ أنت وأصرخ أنا ويصرخ الثالث وترتفع صيحاتنا، فهذه الصيحات وقودٌ يحرّك المجالس ويلهب المشاعر.

ولو تعب الإنسان من الصراخ فذلك لا يكفي، بل «فليصرخ الصارخون ويضجّ الضاجّون»، أي: صِح ولو من التعب والجهد، ولا تتوقف عن تفاعلك مع مصيبة الحسين (عليه السلام) بمجرد شعورك بالإنهاك.

وفوق ذلك، مطلوبٌ منّا أن نحوّل هذا الضجيج إلى عجيج، بأن نجعل صرختنا واحدة لتثير الرهبة في نفوس من يسمعها، فعندما يسمع الآخرون جميع الشيعة يردّدون (لبيك يا حسين) فهذا الصوت يثير الرهبة، وهكذا تترتّب هذه الشعائر على بعضها بشكل طوليّ تراتُبيّ.

الجهة الثالثة: تحليل طلب الوصف من المتّصفين به. ممّا يلفت في هذه الفقرات قول الإمام (عليه السلام): «فليبكِ الباكون، وإياهم فليندب النادبون»، ولم يقل مثلًا: فليبكِ المؤمنون وإياهم فليندب المؤمنون، مع أنّه إذا كان الشخص باكيًا نادبًا كيف يُطْلَب منه البكاء والندبة؟ إن هذا إلّا تحصيلٌ للحاصل، وهذا يدعونا للتساؤل عن معنى طلب البكاء من الباكين والندبة من النادبين، فما هو وجه طلب الوصف ممّن يتّصف به فعلًا؟

ويمكن أن يجاب عن هذا التساؤل بأحد أجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: إلفات النظر للمتعلّق الأجدر والأولى. من الواضح أنَّ البكاء له متعلّق، فلا يمكن أن تبكي ولا يوجد من تبكي عليه، وعندما تندب لا تتحقق الندبة من غير وجود مندوب، بل لا بدّ لها من متعلّق، وهنا الإمام يقول: أيها الباكون أنتم تبكون على آبائكم وأمهاتكم وأصدقائكم، لكن حوّلوا بكاءكم للأجدر بالبكاء، وهم الأطائب من أهل بيت محمّد وعليّ (عليهم السلام).

الجواب الثاني: طلب الترقّي من المرتبة الأدنى إلى المرتبة الأعلى. نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ﴾[11]، فما معنى طلب الإيمان من المؤمنين؟!

إنَّ هذا من باب طلب الترقّي من مرتبة من مراتب الإيمان إلى مرتبة أعلى، فأنت عندما تتشهد الشهادتين أو الشهادات الثلاث تكون مؤمنًا وإن لم يكن هناك ثمّة عمل، إذ إنَّك بمجرّد التشهّد تكون قد وصلت إلى مرتبة من مراتب الإيمان، غير أنَّك بالعمل تصل إلى مرتبة أعلى، وهكذا يتحقّق الترقّي في مراتب الإيمان.

وفي دعاء الندبة يخاطبنا الإمام (عليه السلام): أيها الباكون ابكوا، وأيها النادبون اندبوا، وأيها الصارخون اصرخوا، فأنتم قد بكيتم على الحسين (عليه السلام) وندبتم وصرختم كثيرًا طويلًا، ووصلتم إلى مراتب سامية وعالية، ولكنّني أدعوكم للوصول إلى مرتبة أعلى، ولو بالاستمرار أو تصعيد مستوى التفاعل.

الجواب الثالث: عدم رضا الإمام (عليه السلام) إلّا باتّصاف شيعته بهذه الصفات. وهذا الجواب يستحقّ الالتفات، ويمكن تقريبه بمثال عرفي، وهو أنَّ الأب قد يخاطب ابنَه في أوّل يومٍ من أيام الدراسة قائلًا: (أيها الطالب المجتهد اجتهد في دراستك)، مع أنَّ الدراسة لم تبدأ بعد، ومع ذلك وصفه بأنّه مجتهدٌ؛ ليبيّن له بأنّه لا يرضى عن ابنه إلا بأن يكون متّصفًا بهذا الوصف، فليس اجتهاده موضوعًا قابلًا للنقاش، بل فرض الأب ابنَه مجتهدًا، ووصفه بذلك، واعتبره أمرًا مفروغًا عنه، لأنه لا يرضى إلا بتحقّقه.

وهكذا هو حال الإمام (عليه السلام) معنا، فهو يريد أن يقول لنا من خلال دعاء الندبة: شيعتي، أنا لا أرضى إلّا أن تكونوا باكين نادبين، ولذلك وصفتكم بذلك واعتبرته أمرًا مفروغًا عنه.

فالمطلوب من الشيعة أن يكونوا باكين نادبين ساكبين لدموعهم صارخين ضاجّين عاجّين، وهكذا ينبغي أن تكون المجالس الحسينية، مجالس صرخة وبكاء، ومجالس ضجيج وعجيج، وليست هذه المجالس معقودة لإلقاء المحاضرات، فالمحاضرات عنصرٌ ثانويٌّ، وإنَّما هي معقودةٌ للدمعة والصرخة والضجيج والعجيج، والإمام (عليه السلام) لا يرضى منّا إلا بتحقّق هذه الصفات، فمن الخطأ الدعوة إلى إلغاء عنصر الدمعة أو تقليصه، أو الاكتفاء بالبكاء الهادئ، فإنَّ كلّ ذلك على خلاف تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)[12].

الهوامش: [1] المزار: ص27.

[2] مستدركات علم رجال الحديث: ج6، ص394.

[3] مستدركات علم رجال الحديث: ج3، ص165.

[4] تاج العروس: ج19، ص212.

[5] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج44، ص278، باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة، ح3.

[6] وسائل الشيعة: ج14، ص507.

[7] كتاب العين: ج4، ص185؛ لسان العرب: ج3، ص33؛ المعجم الوسيط: ج1، ص512.

[8] لسان العرب: ج2، ص312؛ المعجم الوسيط: ج1، ص534.

[9] كتاب العين: ج1، ص67؛ المعجم الوسيط: ج2، ص584؛ معجم مقائيس اللغة: ج4، ص28.

[10] بصائر الدرجات: ص291.

[11] سورة النساء: 136.

[12] سئل مرجع الطائفة السيّد السيستانيّ (دام ظلّه): هل ترون أنّه من الداعي إثارة مصيبة كربلاء بين الناس بشكلٍ عنيفٍ وحماسيٍّ أم لا؟ فأجاب: «نعم؛ لكي يبقى مشعل الثورة على الظالمين باقيًا إلى الأبد، ما دام الظالمون باقين على بغيهم وظلمهم لآل محمّد (عليهم السلام)، وللدّين الإسلاميّ بمعناه الصحيح الذي رسمه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهو متابعة القرآن والعترة» [الفوائد الفقهيّة: ص159].


طباعة   البريد الإلكتروني