وقفات مع ظاهرة السجال الشعائري

(وقت القراءة: 14 - 28 دقائق)

200704 210030

من جملة الظواهر المؤسفة التي يشهدها العالم الشيعي في كلّ عام: ظاهرة السجال والنزاع حول بعض مظاهر الحزن الحسيني، حيث ينقسم الشيعة في موسم عاشوراء من كلّ عام إلى فريقين: فريق مؤيّد وفريق معارِض، ويتسبّب ذلك في إيجاد حالة من الاحتقان والصراع باسم الحسين (عليه السلام) حول بعض مظاهر حزنه، وقد تستمر هذه الظاهرة المتجدّدة إلى ما بعد شهر محرّم الحرام من كلّ عام.

ولنا مع هذه الظاهرة المقلقة ثلاث وقفات:

الوقفة الأولى: أسباب ظاهرة السجال الشعائري. ويمكن إرجاعها إلى سببين:

السبب الأول: اختلاف الرؤية الفقهية. حيث يوجد اختلاف بين المراجع العظام حول شعيرية بعض مظاهر الحزن، ونتيجة ذلك ينقسم المقلِّدون إلى قسمين: قسم يؤيِّد بعض مظاهر الحزن ويعتبرها من الشعائر، وقسم يعارض تلك المظاهر ويحاربها ويعتبرها من غير الشعائر.

ولكنّ هذا السبب لا ينبغي أن يكون سببًا للنزاع؛ لأنَّ المؤمنين يختلفون في كثير من المسائل الفقهية نتيجة اختلاف فتاوى مراجعهم فيها، ومع ذلك نرى كلّ واحد منهم يعمل بفتوى مرجعه في ظلّ حالة من الوداد والتفاهم والتلاحم، من غير أن يتسبّب ذلك في أيّ نزاع وسجال، وبالتالي فالاختلاف الفتوائي في بعض مظاهر الحزن الحسيني لا ينبغي تحويله إلى حالة خلاف وصراع بين محاربين ومؤيّدين.

السبب الثاني: ظاهرة اختراق الشعائر الحسينية. حيث بدأنا في السنوات الأخيرة من خلال وسائل التواصل والإعلام نفتح أعيننا على ظاهرة مقلقة جدًا في عالم الشعائر الحسينيّة، وهي ظاهرة تحريف بعض الشعائر والدسّ فيها.

فنرى مثلًا موكبًا عزائيًا يضجّ بالموسيقى الصاخبة، مع أنها موسيقى محرّمة باتفاق الفقهاء.

أو نرى مقطعًا عزائيًا يشتمل على رقص جماعة من الرجال، مع أنَّ الرقص من المحرّمات قطعًا.

وهكذا يتمّ تحريف الشعائر من داخلها لتشويه صورتها، وهذه الظاهرة الخطيرة قد فتحت أيضًا باب السجال حول الشعائر.

ولأهمّية هذه الظاهرة وخطورتها؛ سوف نتناولها من خلال ثلاث جهات:

الجهة الأولى: ما هو مشروع الاختراق؟ لا ريب في أنَّ أيّ جماعة – قلّت أو كثرت – عندما يراد توهينها وتضعيفها وتذويبها، فإنَّ مراكز القوّة عندها تتعرّض إلى محاولات استهداف، فإذا أراد أحدٌ أن يعرف مراكز القوّة عنده -كفرد أو كجماعة- فما عليه سوى أن يلاحظ النقاط التي هو مستهدفٌ فيها، فإنَّ تلك النقاط إنَّما صارت محطّ النظر والاستهداف لأنَّها تشكّل مراكز القوّة عند ذلك الفرد أو تلك الجماعة.

ومن جملة محاولات الاستهداف: ما يعبّر عنه بمشروع الاختراق، وهو عبارة عن زرع عناصر مشابهة لعناصر القوة ولكنها دونها في الكفاءة والمستوى؛ من أجل تمييعها وتذويبها.

ويمكن تقريب الفكرة بالمرجعية الدينية المباركة، فإنَّها من أهمّ مراكز القوّة عند الشيعة الإمامية، ولا أدل على قوة هذا المركز ممّا حصل في العراق أخيرًا، حيث تعرّض المجتمع العراقي لغزو الدواعش، وصار في محنة شديدة جدًا، فاستطاعت المرجعية بفتوى واحدة أن تحرّك الشارع العراقي كلّه من أدناه إلى أقصاه، إلى أن تكللت تلك الحركة بالنصر المؤزر، فهذا دليلٌّ وجدانيٌّ واضحٌّ على قوة المرجعية الدينية، وعلى كونها من مراكز القوّة عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام).

ومن هنا نجد هذا المركز دائمًا مستهدفًا من خلال عدة مشاريع وأساليب، ومنها أسلوب الاختراق، بمعنى زرع عناصر مشابهة لعناصر المرجعية الدينية ولكنهم دونهم في الكفاءة، فتجد الإعلام يروّج لأشخاص على أنهم مراجع دين، والحال أنهم لا يحملون كفاءة علمية ولا دينية ولا تقوائية، وتكون لهم مواقف وتصرّفات وفتاوى سلبية، فيؤثر ذلك سلبًا على عنوان المرجعية الدينيّة.

وهذا من قبيل أن تكون هناك مجموعة من الأطباء الأكفّاء، ذوي الشهادات العلمية العالية، فتأتي جماعةٌ أخرى قد زوّرت شهادات طبية وأكاديمية وتندسّ بين جماعة الأطباء، فيتسبّبون في كثرة الأخطاء والكوارث الطبّية، ويؤثرون بالنتيجة على عنوان الأطباء، فلا يبقى على قوّته، بل تتضعضع موقعيّته في نفوس الناس.

وكذا الحال في عنوان المدرِّس مثلًا، فإنّه عنوانٌ محترمٌ ومعظَّمٌ ما دام المدرّسون يؤدّون مهامهم التربوية والتعليمية عن كفاءة، ولكن عندما يحصل تسامح ويتخرّج مجموعة من الطلاب من غير كفاءة، ثم ينتمون إلى كادر التدريس ويتصدّون له من غير كفاءة، فإنّهم يتسبّبون في نتائج سلبية على الصعيد التربوي والتعليمي، ممّا يؤثّر سلبًا على عنوان المدرِّس ومكانته.

فأسلوب الاختراق يعتمد على زرع عناصر مشابهة لعناصر القوة، ولكن دونها في الكفاءة، وتكون لهذه العناصر الدخيلة آثار سلبية، فيؤثر وجودها على العنوان العام، وهكذا يتمّ إضعاف مركز القوة وتوهينه.

وما يهوّن الخطب في مسألة المرجعية الدينية أنَّ العالم الشيعي لا زال – بحمد الله تعالى – متيقّظًا وملتفتًا لحال هؤلاء المتمرجعين، وسرّ ذلك:

أولًا: إنَّ المرجعية لها ضوابط صعبة مستصعبة تتعذر على هؤلاء.

وثانيًا: إنَّ بين هؤلاء المتمرجعين سمة مشتركة تميّزهم، وهي مهاجمتهم الدائمة للمراجع الحقيقيين، وكأنّ بينهم – على اختلافهم – مشروعًا مشتركًا يصبّ في ضرب المرجعية ونقدها، فترى كل واحد منهم يطعن فيها من ناحية، وهذه السمة المشتركة تميّز هؤلاء وتفضحهم.

الجهة الثانية: ما هو سرّ تعرّض الشعائر الحسينيّة لمحاولات الاختراق؟ ممّا لا شكّ فيه: أنَّ الشعائر الحسينية المباركة هي من أهمّ مراكز القوة عند شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ولسنا نقول ذلك وندّعيه عن عاطفة، بل هو ممّا شهد به الآخرون ممن أخضعوا العالم الشيعي لدراسات مفصّلة ومكثفة، وإليك ثلاثة نماذج من كلمات المستشرقين تثبت هذه الحقيقة:

الكلمة الأولى: كلمة المستشرق الألماني (ماربين) في كتابه (السياسة الإسلامية)[1]، حيث قال: «عندما نقيس منهج دعاتنا المبشّرين مع صرف تلك القوّة والثروة بمنهج دعاة هذه الفرقة، نرى أنّ دعاتنا لم يحوزوا العُشر من تقدّم هذه الفرقة. رؤساء ديننا وإن كانوا يحزنون الناس بذكر مصائب حضرة المسيح (عليه السلام)، ولكنه ليس بذاك الأسلوب والشكل الذي يتّخذه أتباع الحسين»[2]، «كلما ازدادت قوّة أتباع عليّ ازداد إعلانهم بذكر مصائب الحسين، وكلما سعوا وراء هذا الأمر ازدادت قوّتهم»[3].

الكلمة الثانية: كلمة مستر (توماس لاي) مساعد الحاكم البريطاني بين النجف والشامية أيام الغزو البريطاني للعراق، حيث كتب خاطرة مهمّة في كتابه (دخائل العراق) وهو ينظر المواكب العزائية، فقال فيها: «فشعرتُ وما زلتُ أشعر بأنني توصّلتُ في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسنٌ وممتلئٌ بالحيوية في الإسلام، وأيقنتُ بأن الورع الكافي في أولئك الناس والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزّا العالم هزًّا فيما لو وُجِّها توجيهًا صالحًا وانتهج السبل القويمة، ولا غرو فلهؤلاء الناس دافعية فطرية في شؤون الدين»[4].

الكلمة الثالثة: كلمة المستشرق الفرنسي (جوزيف توسان) في كتابه (الإسلام والمسلمون)، حيث قال: «من جملة الأمور السياسيّة التي ألبسها رؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب من عدّة قرون، وصارت مؤثرة جدًا لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم، هي أصول التمثيل باسم الشبيه[5] والتعزية في مأتم الحسين»[6].

فهذه شهادات لمستشرقين درسوا العالم الإسلامي، وسجّلوا ما عندهم من انطباعات، فتوصّلوا إلى أنَّ سرّ قوّة التشيّع هي شعائر الحسين (عليه السلام)، من مجالس وصرخات ودموع ومواكب عزائية.

ولذلك فمن الطبيعي جدًا أن تتعرّض الشعائر الحسينيّة إلى محاولات اختراق، من أجل تذويبها وتمييعها والقضاء عليها، فإنَّها من أهمّ مراكز القوّة عند الشيعة.

من نماذج محاولات الاختراق: وإليك نموذجين لهذه المحاولات التي تعرضّت ولا زالت تتعرّض لها الشعائر الحسينيّة:

أ/ النموذج الأول: تحويل المجالس الحسينية إلى محاضرات وندوات. وإن سألتني: لماذا اعتبرنا هذا نموذجًا للاختراق؟ أجبتك: بأنَّنا عندما نفصل عنصر المصيبة والبكاء من المجالس الحسينية، ونحوّلها إلى مجرّد ندوات ومحاضرات، فإنَّ الأحاسيس سوف تتجمّد شيئًا فشيئًا، وهكذا تُقْتَل العواطف، ويصبح الارتباط بالحسين (عليه السلام) ارتباطًا ماديًا فكريًا محضًا، إلى أن يموت الوهج الفاعل للشعائر الحسينيّة.

وقد حدثت هذه المحاولة لاختراق المجالس بعد انتصار الثورة في إيران، حيث طالب مجموعة من المثقفين هناك بعصرنة المجالس، وذلك بحذف عنصر البكاء وجعلها مجرد محاضرات، فتصدّى المراجع العظام آنذاك لدحر هذه المحاولة، ومنهم السيد الخميني (قدس سره)، حيث يوجد عنده خطابٌ في غاية الأهمية، وضع فيه النقاط على الحروف، وممّا جاء فيه:

«لقد حوفظ على شعبنا بهذه المجالس الحسينية، ولم يكن جزافًا ما قام به رضا خان عند منع رجال سافاكه جميع مجالس العزاء. هذا الأمر لم يحصل مصادفة وبصيغة طبيعية من دون سبب… لقد كان مأمورًا بإطاعة الخبراء والمختصّين الذين يدركون القضايا. لقد قام أعداؤنا بدراسة أوضاع الشعوب، وعند دراستهم للشعب الشيعي لاحظوا أنهم لا يستطيعون بلوغ مقاصدهم ما دامت هذه المجالس والمراثي على المظلوم موجودة، وما دامت عملية فضح الظالم مستمرة، لذلك عمدوا إلى منع هذه المجالس في عهد رضا خان…

والآن هم أولئك أنفسهم لكن من خلال اللعب بشبابنا واستغلالهم، والقضية هي نفسها التي كانت في عهد رضا خان، حيث منع المجالس الحسينية، فقد برزت في الوقت الحاضر مجموعة تقول: كفى لا تقرؤوا المصائب! لا يعرف هؤلاء معنى المصيبة، ولا يدركون ماهية هذه المآتم… هم لا يدركون أنّ البكاء في مأتم الحسين (عليه السلام) هو بمعنى الحفاظ على النهضة حيّة فاعلة…

حذارِ أن ينخدع شبابنا بألاعيب هؤلاء الكبار، إنهم خونة، إنَّ هؤلاء الذين يوحون بالقول إليكم إنكم شعب بكّاء إنّهم يمارسون الخيانة، فكبراؤهم وأسيادهم يخشون هذا البكاء»[7].

فهذا الخطاب يبيّن أنَّ البكاء يقضّ مضاجع القوى الكبرى ويثيرها ويقلقها، ولذلك تحاول القضاء على هذا العنصر بعنوان عصرنة المجالس وتحديثها، وبحجّة مواكبة الشعائر الحسينية للزمان.

ب/ النموذج الثاني: الراب الحسيني! حيث شهد المجتمع الشيعي في السنوات الأخيرة انتشار مواكب عزاء تنتهج طريقة الراب الغنائي الأمريكي، وتعنون بعنوان الراب الإسلامي أو الراب الحسيني، وهذه محاولة أخرى لاختراق الشعائر الحسينية المباركة، إذ عندما يسود هذا الأسلوب في إحياء المواكب العزائية، ويكون طابعًا لبعضها، فإنَّ هذه المواكب ستفقد روحانيتها وهيبتها وفاعليتها، وهذا ما يرومه أعداء الحسين (عليه السلام)[8].

الجهة الثالثة: كيف نواجه مشروع الاختراق؟ لقد تحمّل آباؤنا وأجدادنا ما تحمّلوه وبذلوا ما بذلوه من أجل أن تصل إلينا الشعائر الحسينيّة نقية غير محرّفة، حتى وصلت إلينا بهذا النحو القوي الفاعل، ولذلك فإنَّ هذه الشعائر أمانة في أعناقنا، ومسؤوليتنا أن نوصلها إلى الأجيال الآتية كما وصلت إلينا، فكيف نواجه محاولات الاختراق ونحافظ على هذه الشعائر؟

والجواب عن هذا التساؤل: هناك طريقٌ واضحٌ أسّس له أهل البيت (عليهم السلام)، حيث ورد عن إمامنا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه): «فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»[9]، وليس المراد برواة حديثهم من ينقلون الروايات من غير أن يحيطوا بمعانيها وأن يخبروها، بل رواة حديثهم هم خبراء الروايات والمعارف الوحيانية المعصومية، وهم المراجع العظام.

فعندما يستجد شيء في الساحة الشيعية، أو تظهر ممارسة طارئة، فلا داعي للتحيّر في كيفية التعامل مع ذلك، بل علينا طرق باب المرجعية.

وقد جرت سيرة الشيعة من الأزمنة الغابرة على ذلك، ولذا فإنَّ الشعائر التي نحييها اليوم لم تصلنا من غير انضباط، بل كانت تحت مظلة شرعية.

ومن الشواهد على ذلك: ما حدث سنة 1354 هـ، حيث كان مرجع الشيعة آنذاك هو المحقق النائيني (قدس سره)، فرفع إليه أهالي البصرة مجموعة من الأسئلة يسألونه فيها عن أحكام عدّة من الشعائر الحسينية المباركة، وهي:

حكم خروج المواكب العزائية إلى الشوارع. حكم اللطم على الصدور والخدود وإن أدّى إلى الاحمرار والاسوداد. حكم الضرب بالسلاسل على الأكتاف والظهور. حكم إخراج الدم من الناصية بالقامات والسيوف. حكم استخدام الرجال لملابس النساء في التمثيل لقضايا الطف. حكم استخدام الدمّام في المواكب العزائية، وهو أداة تشبه الطبل. فجميع هذه التفاصيل والجزئيات سأل عنها الشيعة، وكانت خاضعة لنظر المرجعية الدينيّة.

وقد أجاب عنها المحقّق النائيني (قدس سره) فقال:

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى البصرة وما والاها:

بعد السلام على إخواننا الأماجد العظام أهالي القطر البصري ورحمة الله وبركاته.

قد تواردت علينا في (الكرادة الشرقية) برقياتكم وكتبكم المتضمنة للسؤال عن حكم المواكب العزائية وما يتعلق بها، إذ رجعنا بحمده سبحانه إلى النجف الأشرف سالمين، فها نحن نحرر الجواب عن تلك التساؤلات ببيان مسائل:

الأولى: خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرق والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقام به عزاء المظلوم، وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد، لكن اللازم تنزيه هذا الشعار العظيم عما لا يليق بعبادةٍ مثله من غناء أو استعمال آلات اللهو والتدافع في التقدم والتأخر بين أهل محلّتين، ونحو ذلك، ولو اتفق شيء من ذلك، فذلك الحرام الواقع في البين هو المحرّم، ولا تسري حرمته إلى الموكب العزائي، ويكون كالناظر إلى الأجنبية حال الصلاة في عدم بطلانها.

الثانية: لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حدّ الاحمرار والاسوداد، بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضًا على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور، بل وإن أدّى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى.

وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأمونًا، وكان من مجرد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها ولا يتعقب عادة بخروج ما يضر خروجه من الدم، ونحو ذلك، كما يعرفه المتدربون العارفون بكيفية الضرب.

ولو كان عند الضرب مأمونًا ضرره بحسب العادة، ولكن اتفق خروج الدم قدر ما يضر خروجه لم يكون ذلك موجبًا لحرمته، ويكون كمن توضأ أو اغتسل أو صام آمنًا من ضرره ثم تبين ضرره منه.

لكن الأولى، بل الأحوط، أن لا يقتحمه غير العارفين المتدربين، ولا سيما الشبان الذين لا يبالون بما يوردون على أنفسهم لعظم المصيبة وامتلاء قلوبهم من المحبة الحسينية، ثبّتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

الثالثة: الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فإنّا وإن كنا مستشكلين سابقًا في جوازه وقيدنا جواز التمثيل في الفتوى الصادرة منا قبل أربع سنوات لكنا لما راجعنا المسألة ثانيًا اتضح عندنا أن المحرّم من تشبيه الرجل بالمرأة هو ما كان خروجًا عن زي الرجال رأسًا وأخذًا بزي النساء، دونما إذا تلبس بملابسها مقدارًا من الزمان بلا تبديل لزيه كما هو الحال في هذه التشبيهات، وقد استدركنا ذلك أخيرًا في حواشينا على العروة الوثقى.

نعم، يلزم تنزيهها أيضًا عن المحرمات الشرعية، وإن كانت على فرض وقوعها لا تسري حرمتها إلى التشبيه، كما تقدم.

الرابعة: الدمّام المستعمل في هذه المواكب مما لم يتحقق لنا إلى الآن حقيقته، فإن كان مورد استعماله هو إقامة العزاء، وعند طلب الاجتماع، وتنبيه الراكب على الركوب، وفي الهوسات العربية، ونحو ذلك، ولا يستعمل فيما يطلب فيه اللهو والسرور، وكما هو المعروف عندنا في النجف الأشرف، فالظاهر جوازه، والله العالم.

5 ربيع الأول سنة 1345هـ

حرّره الأحقر

محمد حسين الغروي النائيني[10]

ثم أتى السيد الحكيم (قدس سره) مرجع الطائفة في زمانه وعلّق على هذه الفتوى فقال: «ما سطّره أستاذنا الأعظم (قدس سره) في غاية المتانة»، وأتى السيد الخوئي (قدس سره) وعلّق أيضًا قائلًا: «ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) في أجوبته عن المسائل البصرية هو الصحيح، ولا بأس بالعمل على طبقه»، وهكذا بقية أعلام وأقطاب مراجع الشيعة[11].

وهذا يؤكِّد أنَّ الشيعة لم يكونوا يقومون بأيِّ ممارسة من غير مراجعة المرجعية الدينية، بل سيرتهم قد جرت على الرجوع في المستجدات والممارسات الطارئة إلى المرجعية، فإن أجازتها المرجعية وأمضتها وإلا فلا؛ لأنَّ نظر المرجع الديني يختلف عن نظرنا، فنحن قد ننظر إلى الممارسة من ناحية، بينما المرجع ينظر لها من عدّة زوايا:

أوّلًا: زاوية الضوابط الشرعية، فهل ضابط الشعيرة ينطبق على هذه الممارسة أم لا؟

ثانيًا: زاوية فلسفة الشعيرة، فهل هذه الممارسة توجد فيها فلسفة الشعيرة – بحيث تثير الجزع والحزن والبكاء – أم لا؟

ثالثًا: زاوية مصلحة المذهب، وهذه الزاوية مهمّةٌ جدًا، فقد تتصوّر أنت مصلحة المذهب في شيء، لكن المرجع يحدّد مصلحة المذهب في دائرة أخرى مختلفة عن تصوّراتك.

رابعًا: زاوية قيم النهضة ومبادئها، حيث تعرَض الممارسة على قيم نهضة الحسين (عليه السلام) ومبادئها، فإن وافقتها فبها وإلا فلا.

ولا بأس بالوقوف قليلًا عند زاوية القيم والمبادئ؛ إذ قد يُغْفَل عنها أحيانًا، وسنضرب مسألة الغناء نموذجًا، فقد ورد عن سيّد الشهداء (عليه السلام): «ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربُ خمر، قاتل نفس، معلنٌ بالفسق، فمثلي لا يبايع لمثله»[12]، وهذا يعني أنَّ من المبادئ الحسينيّة محاربة الفسق الذي أعلنه يزيد بن معاوية.

وقد تحدّث عن هذا الفسق البلاذري – وهو من علماء السنة – في كتابه (أنساب الأشراف)، حيث قال: «كان يزيد بن معاوية أوّل من أظهر شرب الشراب، والاستهتار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان»[13].

وإذا كان الغناء من مظاهر الفسق الذي أعلنه يزيد وحاربه سيّد الشهداء (عليه السلام)، فكيف لنا أن ندخل الراب الغنائي في الشعائر الحسينية؟! مع أنَّ هذا الراب غناء أمريكي معروف، وتنطبق عليه ضابطة الغناء باتفاق العالم كلّه، فلا يتوافق مع قيم نهضة الحسين (عليه السلام) أبدًا، بل هو على خلاف قيمه ومبادئه.

الوقفة الثانية: خطورة ظاهرة السجال الشعائري. وسنسلّط الضوء هنا على أثرين سلبيين لهذه الظاهرة الخطيرة:

الأثر الأول: إضعاف التلاحم الشيعي. عندما تحارب كل جماعة الجماعة الأخرى على مظاهر حزن معينة، فإنَّ هذا الاحتراب يؤدّي إلى نشوء روح التنافر والتباغض، بحيث تبغض كلّ فرقة الفرقة الأخرى وتنفر منها، وهكذا تضعف روح التلاحم الشيعي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إليها.

فالورقة الأساسيّة -في هذه المرحلة الحرجة التي نعيشها- التي تلعب عليها القوى الكبرى في داخل المجتمع الشيعي هي ورقة الصراع الشيعي/الشيعي، بمعنى أنَّ القوى الكبرى تحاول تمزيق الواقع الشيعي من خلال اختلاق صراعات داخلية بين الأطياف الشيعية أنفسها.

وبالتالي، ينبغي لنا أن نعي خطورة المرحلة، وأن نلتفت إلى هذه الورقة التي يراهن عليها من يريد العبث بالمذهب الشيعي، ومقتضى ذلك الالتفات إلى خطورة ظاهرة السجال والاحتراب حول الشعائر الحسينيّة، التي لها – كما هو واضح – أثرٌ بالغٌ جدًا في ذيوع روح التنافر والتباغض بين أفراد المجتمع الشيعي[14].

الأثر الثاني: توهين الشعائر الحسينية المباركة. لا يخفى أنَّ الشعائر الحسينية المباركة قوّةٌ لا تضاهى ولا ينبغي التفريط فيها، وقد صرّح بذلك – كما مرّ عليك – بعض المستشرقين الذين درسوا العالم الشيعي، وسرّ هذه القوّة هو ما يترتّب على هذه الشعائر من آثار مهمّة لا تترتّب على غيرها، وسنذكر منها ثلاثة:

الأثر الأول: الأثر الإعلامي. فالشعائر الحسينية بعرضها العريض لها أثر مهمّ جدًا في إلفات الأنظار لقضية الحسين (عليه السلام)، ويكفيك شاهدًا على ذلك زيارة الأربعين الملايينيّة، فإنَّ هذه الشعيرة لو سُلِّطَت عليها الأضواء تسليطًا يليق بها كحدث عالمي لألفتت نظر العالم كلّه إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكننا نرى القنوات الفضائية تحاول التعتيم على هذا الزحف الملاييني، وأن تجتنب تغطيته؛ لأنّها لو غطّته لخدمت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خدمة كبيرة بإلفات الأنظار إلى قضية الحسين (عليه السلام).

الأثر الثاني: الأثر التعبوي. فالشعائر الحسينية تمارس دور تعبئة النفوس وتغذيتها بمنظومة قيمية رائعة، ولذلك فإنَّنا عندما نضع يدنا على الشباب الحسينيين الذين يحضرون المآتم ومواكب العزاء نجد عندهم منظومة قيمية لا توجد عند غيرهم، فنراهم يتمتّعون بالعزّة والإباء والتضحية.

ومن هنا ليس مستغربًا أن نراهم يضحّون بأنفسهم في سبيل الحفاظ على المآتم وأماكن العبادة؛ إذ شعار (هيهات منّا الذلّة) الذي يتردّد في المآتم والمواكب الحسينيّة يضخّ في النفوس منظومة قيمية رائعة لا نظير لها عند غير الحسينيين.

الأثر الثالث: الأثر الإيماني. فهذه الشعائر توقد فجأة – من غير مقدّمات – جذوةً منطفئةً طوال سنة كاملة، حيث نجد في المجتمع شريحة من الشباب غير المتديّن، والذي لا يعرف مسجدًا ولا حسينيّة طوال لسنة، بل بعضهم قد لا يصلّي طوال السنة، ولكن بمجرد أن يأتي شهر عاشوراء تتحوّل هذه الشريحة إلى كتلة من النشاط المتوهّج في سبيل خدمة الحسين (عليه السلام)، فتجد هذه الشريحة تملأ المواكب والمضائف والمآتم الحسينيّة، وهكذا يتغيّر واقعهم وينقلب رأسًا على عقب ببركة الشعائر الحسينيّة المباركة.

فتبيّن ممّا ذكرناه: أنَّ الشعائر الحسينية لها آثار مهمّة جدًا، تجعل منها قوّةً لا نظير لها، ولكن عندما نفتعل صراعًا واحترابًا ونزاعًا في كلّ عام باسم الحسين (عليه السلام) حول بعض مظاهر الحزن، بحيث يحصل التباغض والتنافر – وربّما التفسيق والتكفير – بين المؤمنين بسبب هذا الاحتراب، فإنَّ نتيجة ذلك تنصبّ في توهين الشعائر الحسينيّة وإضعاف فاعليّتها وتأثيرها في النفوس، ووهنُ الشعائر له مردودٌ سلبيٌّ بالغ الخطورة[15]، ولذلك فإنَّ ظاهرة السجال حول الشعائر الحسينية ظاهرةٌ خطيرةٌ ينبغي وأدها والقضاء عليها.

الوقفة الثالثة: نقد مبرّرات ظاهرة السجال الشعائري. ممّا لا خفاء فيه: أنَّ إحدى الشرائح المجتمعيّة التي تحمل راية السجال حول الشعائر الحسينيّة في كلّ عام هي الشريحة المتديّنة، ومن هنا فإنَّنا نقول لهؤلاء الذين يشاركون في إثارة الزوبعة: إنَّ عملكم كمتديّنين ينبغي أن يكون على طبق مسوِّغ شرعي، فما هو المبرّر الذي يجعلكم تبذلون كلّ هذه الجهود السنويّة في السجال والاحتراب؟

وجوابهم عن هذا التساؤل المهمّ يكون بأحد مبرّرات أربعة، وسوف نقف عندها واحدًا تلو الآخر حتى يتبيّن أنَّ هذه الظاهرة لا يوجد لها غطاء شرعي.

المبرّر الأول: النهي عن المنكر. حيث يقولون: إنّنا إنّما نقف ضد الجماعة الأخرى لأنّنا نعتقد بأنَّ ما يفعلونه منكرٌ من المنكرات، فنواجههم من باب النهي عن المنكر.

ومن الواضح أنَّ هذا المبرِّر لا يصلح شرعًا للتبرير؛ إذ عملية النهي عن المنكر مشروطة بشروط، وأحدها: أن يكون المنكر منجّزًا في حقّ فاعله، وأمّا لو كان معذورًا لاشتباهٍ في الموضوع أو في الحكم اجتهادًا أو تقليدًا فلا يصح نهيه عن المنكر.

فمثلًا: لنفرض أنّك تقلّد مرجعًا يرى أنَّ استماع الموسيقى حرام مطلقًا، بينما أقلّد أنا مرجعًا آخر يرى أنَّ استماع الموسيقى التصويرية مثلًا لا حرمة فيه، فحينئذٍ لا يجوز لك استماع الموسيقى التصويرية، بل هي منكر بالنسبة إليك، بينما أنا يجوز لي استماعها، ولا يصحّ لك أن تنهاني عنها من باب النهي عن المنكر؛ لأنني لم أفعل منكرًا، وإن كان نفس الفعل في حقّك منكرًا.

وهكذا الحال في مسألة الصراع الشعائري، فإنّك قد تختلف مع جماعة معينة حول مظهر من مظاهر الحزن، وذلك لأنَّ مرجعك يعتبره منكرًا، ولكن تلك الجماعة تقلِّد مرجعًا آخر يرى استحباب ذلك المظهر، وبالتالي لا يصحّ لك أن تنهاهم عن القيام به بعنوان النهي عن المنكر، فإنّه معروف في حقّهم، ولو نهيتهم عنه لكنت قد نهيتهم عن معروف لا عن منكر، والنهي عن المعروف من المحرّمات.

المبرِّر الثاني: إرشاد الجاهل. إذ من جملة القواعد الفقهية: وجوب إرشاد الجاهل، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [16]، فالذي يتفقّه يجب عليه تعليم غيره وإرشاده وتحذيره وإنذاره.

وهذا العنوان أعمّ من سابقه، فإنَّ النهي عن المنكر إنّما يكون في موارد ما لو كان فعل الإنسان منكرًا، بينما إرشاد الجاهل يصحّ حتى لو لم يكن فعله منكرًا، كمن لا يعلم بأنَّ التشهّد واجبٌ في الصلاة مثلًا، فإنّه إذا صلّى من غير تشهّد جاهلًا بالحكم لا يكون فعله منكرًا، ولكن مع ذلك يجب تعليمه لا من باب النهي عن المنكر، بل من باب وجوب إرشاد الجاهل.

ومن هنا قد يقال: إنَّنا نخوض معركة الصراع حول بعض مظاهر الحزن الحسيني من باب إرشاد الجاهل، لا من باب النهي عن المنكر حتى يقال لنا: إنَّ هؤلاء لا يفعلون منكرًا!

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا المبرر لا يصحّ؛ لأنَّ من يختلف معك في مظهر من مظاهر الحزن بسبب الاختلاف الفقهي عند المراجع لا يجهل الحكم، بل هو يعلم بفتوى مرجعه ويعمل على طبقها، فهو ليس جاهلًا بالحكم، بل هو عالم به، وإرشاد الجاهل لا يكون للعالم، وإنما يكون للجاهل، فلا يصلح هذا العنوان للتبرير أيضًا.

المبرِّر الثالث: تنبيه الغافل. وهذا العنوان لا يختلف عن سابقه بنظر بعض الفقهاء، ولكنّ فقهاء آخرين يفرّقون بينهما من جهة أنَّ إرشاد الجاهل يكون في موارد الجهل بالحكم، بينما تنبيه الغافل يكون في موارد الجهل بالموضوع.

فمثلًا: قد يعلم الإنسان بأنَّ القاتل يجب قتله والاقتصاص منه، ولكنّه لا يعلم أنَّ القاتل في القضيّة المعيّنة هو زيد، بل يظنّه عَمْرًا، فهو يعرف الحكم ولكنّه يجهل الموضوع، وحينئذٍ يجب عليَّ – بما أنَّني أعرف هوية القاتل الحقيقي – تصحيح المعلومة، فإنَّ الموضوع المذكور من المهمّات، ولو لم أنبّه القاضي الغافل لوقع القتل على شخص بريء، فهذا من باب تنبيه الغافل لا إرشاد الجاهل.

ولذلك قد يقال: إنَّنا نخوض معركة الصراع حول بعض مظاهر الحزن من باب تنبيه الغافل لوجود جهلٍ بالموضوع، إذ يوجد حكم واضح في الشريعة يعرفه الجميع، وهو حرمة الإتيان بما يوهن المذهب، ولكن هؤلاء يجهلون الموضوع، إذ يقومون بعملٍ لا يعلمون بأنه يتسبّب في توهين المذهب، وبالتالي فنحن إنَّما نقوم بمواجهتهم من باب تنبيه الغافل، لا من باب إرشاد الجاهل.

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا المبرّر أيضًا لا يصحّ؛ لأنَّ الذين يختلفون معنا في بعض مظاهر الحزن لا يجهلون الموضوع، وإنما يختلفون معنا في تشخيصه، فنحن نشخّص بأنَّ هذا يوهّن المذهب، بينما هم يشخّصون بأنّه يقوّي المذهب، وعند الاختلاف في التشخيص لا يصحّ لي فرض تشخيصي على الآخرين، كما لا يصحّ لهم أن يفرضوا تشخيصهم عليَّ، بل كلّ واحدٍ يعمل على طبق تشخيصه، ولا يصحّ لي أن أواجههم حينئذٍ بعنوان تنبيه الغافل.

فإن قيل: إنَّ كلّ شخصٍ يحقّ له الحديث عن بعض الممارسات التي يراها منفِّرةً من المذهب ببيان عام -من خلال وسائل التواصل- دون توجيه الكلام لأشخاص معينين، فلا يكون ذلك من باب إرشاد الجاهل ولا تنبيه الغافل، وإنّما هو تشخيصٌ لموضوع خارجيّ أداءً للمسؤولية الشرعية في وجوب صيانة المذهب من التشويه.

قلنا: لا شكَّ في أنَّ تشخيص الموضوعات العرفية حقٌّ لكلّ أحد، غير أن تشخيص كل شخص إنما هو حجّةٌ عليه ليس إلا، فنشره للآخرين عبر بيان عام يتضمّن بالضرورة رسالةً مبطنةً، فالسؤال حينئذ: ما هي هذه الرسالة؟

فإن قال: هي مجرد بيانٍ للتشخيص الشخصي من غير فرضه على الآخرين، فهو عمل غير عقلائي؛ لأن الآخرين لا علاقة لهم بالتشخيص الشخصي، ولا يصح لهم ترتيب الأثر عليه.

وإن قال: إنَّ الرسالة هي تخطئة تشخيص الآخرين، فلا يخلو ذلك إما أن يكون من باب النهي أو الإرشاد أو التنبيه، فرجع الكلام إلى المربّع الأوّل.

المبرِّر الرابع: الإلزام بحكم الحاكم الشرعي. وحتى يتّضح هذا المبرّر لا بدَّ من الالتفات إلى أمرين:

أوّلًا: إنَّ ما يصدر من الحاكم الشرعي – أي: الفقيه المجتهد – تارةً يكون فتوى وأخرى يكون حكمًا، فالفتوى هي الإخبار عن حكم كلّي، كأن يقول المرجع: يستحبّ في الصلاة الأذان والإقامة، فهنا المرجع ليس بصدد تأسيس حكم، وإنما يخبر عن حكم كلّيّ في الشريعة لا يختص بزمان دون آخر ولا بمجتمع دون آخر.

وأما الحكم فهو إنشاء وليس إخبارًا، إذ هو إنشاء حكم جزئي في واقعة معينة وفي زمان معيّن لمصلحة من المصالح التي تعود على المجتمع الإسلامي أو الشيعي، من قبيل حكم المجدّد الشيرازيّ (قدس سره) بحرمة بيع التنباك، فإنَّه في هذا الحكم لا يخبر عن أنّ حكم بيع الدخان في الشريعة هو الحرمة، بل هو بصدد إنشاء حكم مؤقّت في زمان معين بمقتضى الولاية التي له بما هو حاكمٌ شرعيٌّ.

ثانيًا: إنَّ فتوى المرجع لا تنفذ إلّا في حقّ مقلّديه، بينما الحكم لا ينفذ في حقّ مقلّديه ومقلّدي غيره فحسب، بل ينفذ حتى في حقّ غيره من المجتهدين، ولذلك فالمجدّد الشيرازيّ (قدس سره) عندما حكم بحرمة بيع التنباك فقد نفذ هذا الحكم حتى على المجتهدين والمراجع في زمانه.

ومن هنا قد يقال: لقد حكم مرجعنا بحرمة بعض مظاهر الحزن، ونحن عندما نواجه الآخرين فإننا نريد أن نلزمهم بحكم الحاكم الشرعي؛ لأنَّ حكمه نافذٌ حتى في حقّ غيره من المجتهدين فضلًا عن مقلّديهم.

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا أيضًا لا يصلح للتبرير؛ وذلك من جهتين:

أوّلًا: إنَّ حكم الحاكم إنما ينفذ في حقّ الآخرين إذا كانوا يقولون بنفوذ حكم الحاكم اجتهادًا أو تقليدًا، والحال أنَّ مسألة نفوذ حكم الحاكم في حقّ غيره ليست مسألة اتفاقية بين الفقهاء، بل هي مسألة خلافية[17]، فإذا كنت أنا أقلّد من لا يرى نفوذ حكم الحاكم في حقّ غيره، فلا يصحّ لك حينئذٍ إلزامي بحكم مرجعك بحجّة الإلزام بحكم الحاكم الشرعي، بل هذه الورقة تسقط من يدك أيضًا.

ثانيًا: إنَّ حكم الحاكم لا يكون نافذًا في حقّ غيره إلا إذا لم ينقضه حاكمٌ آخر، وأما لو نقض حاكم آخر حكم الحاكم الأول واعتبره مشتبهًا فيه، فحينئذٍ لا يكون حكمه نافذًا، فإذا كان هؤلاء يقلّدون مرجعًا ينقض حكم الحاكم الذي أنا أقلّده، فإنّني لا أستطيع أن ألزمهم بمسألة حكم الحاكم.

نتيجة البحث: ومن مجموع ما ذكرناه يتضّح أنّ حالة الصراع والسجال حول بعض مظاهر الحزن الحسيني ليس لها غطاء شرعي أصلًا، وبالتالي فإنَّنا نحتاج أن نصل إلى مرحلة من الوعي، بحيث يعمل كل واحدٍ منّا برأي مرجعه من غير أيّ صراع أو نزاع، إذ لا معنى للصراع باسم الحسين (عليه السلام)، بل ينبغي أن نتعاضد جميعًا للتخلّص من هذه الظاهرة المقيتة التي لا مبرّر لها.

والقضية المهمّة هنا هي أنَّ الشعائر الحسينية المباركة ينبغي أن تكون تحت نظر المرجعية الدينيّة، فإنَّنا في هذه الفترة في أمسّ الحاجة للرجوع إلى المراجع العظام فيما يرتبط بالشعائر الحسينية؛ وذلك – كما بيّنا مفصَّلًا في الوقفة الأولى – لوجود محاولات اختراق للشعائر، ولا يمكن ضبطها إلّا بالرجوع إلى الفقهاء، إذ عندما يعمل كلّ شخصٍ على طبق فتوى مرجعه فحينئذٍ لا يستطيع أحدٌ أن يستحدث شيئًا بعنوان شعيرة حسينية والحال أنه على خلاف الموازين الشرعية، وعندما تكون الشعائر تحت مظلة المرجعية نستطيع أن نوصد الباب أمام المتربّصين الذين يريدون توهين الشعائر والحطّ من فاعليتها، خصوصًا في هذه المرحلة الخطيرة التي تعدّدت فيها مظاهر الاختراق وتكثّرت وتوسّعت.

الهوامش: [1] ذكره الزركلي في كتابه الشهير (الأعلام: ج2، ص243): «وللفيلسوف الألماني ماربين كتاب سمّاه (السياسة الإسلامية) أفاض فيه بوصف استشهاد الحسين»، وذكره الشيخ محمد هادي الأميني e في (معجم المطبوعات النجفية: ص215): «السياسة الحسينية، مسيو ماربين والدكتور جوزيف، المطبعة العلوية سنة 1347هـ، بحجم الكفّ، اللغة: فارسية، 58 صفحة».

[2] إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص344.

[3] إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص343.

[4] موسوعة العتبات المقدّسة (كربلاء): ص371.

[5] ومسلسل (المختار بن أبي عبيدة الثقفي) ببابك، فإنّه من أبرز الأعمال السينمائية التي مثّلت واقعة الطف، وكان له تأثيرٌ إعلاميٌّ كبيرٌ في نفوس الناس.

[6] إقناع اللائم على إقامة المآتم: ص354.

[7] الشعائر الحسينية، لجواد عليّ كسّار: ص126.

[8] قال المرجع الديني المعظّم، الشيخ محمد إسحاق الفيّاض (دام ظلّه): «إنَّ الشعائر الحسينيّة ليست أمورًا اعتباطية وبلا دليل، بل هي شعائر مقدّسة، ولها جذورٌ متأصّلةٌ في شرعنا المقدّس وفي حياة أهل البيت (عليهم السلام)، وينبغي للمؤمنين إحياء تلك الشعائر بجميع صورها، وعدم فسح المجال للأعداء لكي ينالوا منها ويسيئوا إليها، بإدخال ما ليس منها إليها، ثبّتكم الله بالقول الثابت» [الاستفتاءات الشرعية: ص468].

[9] وسائل الشيعة: ج27، ص140، باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة، فيما رووه عن الأئمة (عليهم السلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم، ح9.

[10] الفتاوى، للمحقّق النائيني (قدس سره): ج3، ص575.

[11] وهم الآيات والحجج: السيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محمود الشاهرودي، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد حسين الحمّامي، والشيخ محمد حسن المظفر، والشيخ محمّد كاظم الشيرازي، والسيد جمال الدين الكَلبيكَاني، والسيد علي مدد الموسوي القائيني، والسيد مهدي المرعشي، والسيد كاظم المرعشي، والشيخ يحيى النوري (قدّست أسرارهم)، كما رُصِدت أسماؤهم وفتاواهم في (فتاوى علماء الدين حول الشعائر الحسينية: ص25 – 36)، و(أحسن الجزاء في إقامة العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام): ج2، ص361).

وزاد في (فتاوى الفقهاء والمراجع في الشعائر الحسينية: ص14 فما بعدها) أسماء عدّة آخرين، منهم: السيد عبد الله الشيرازي، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي، والشيخ محمد علي الأراكي، والشيخ مرتضى الحائري، والميرزا هاشم الآملي، والسيد علي البهبهاني، والميرزا جواد التبريزي، والسيدان الأخوان: السيد حسن والسيد تقي القميان، والسيد رضا الصدر، والشيخ محمد طاهر الخاقاني، والشيخ مجتبى اللنكراني، والشيخ أحمد سبط الشيخ الأنصاري، والسيد جعفر المروّج، والشيخ محمد الغروي، والشيخ علي النمازي الشاهرودي، والشيخ الميرزا محمد باقر الآشتياني، والشيخ محمد رضا المحقق الطهراني، والشيخ محمد رضا الطبسي، والسيد نصر الله المستنبط، والشيخ رضا المدني الكاشاني، والسيد مرتضى الفيروزآبادي، والسيد مهدي اللنكرودي، والسيد محمد مفتي الشيعة، والسيد محمد الوحيدي (قدّست أسرارهم)، ومن الأعلام المعاصرين: السيّد الروحاني، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيّد محمّد سعيد الحكيم (دامت ظلالهم).

[12] مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: ج1، ص 267.

[13] أنساب الأشراف: ج3، ص452.

[14] من الجدير هنا: تسجيل الكلمة التي كتبها المرجع المجاهد، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) في [الآيات البيّنات: ص14] سنة 1345هـ، أي قبل قرابة مئة سنة، على إثر بعض الخلافات الشيعية/الشيعية حول الشعائر؛ إذ ما أحوجنا إليها الآن، حيث جاء فيها: «وطلبتي من كافّة إخواننا المؤمنين… رفض الخلافات والمشاجرات التي لا تعود إلا بالضرر المبيد والضعف المهلك علينا معاشر المؤمنين.

إنّما اللازم المحتّم علينا سيّما في مثل هذه الأعصار أن نكون يدًا واحدة أمام العدوّ الذي لا يزال يجدّ ويدأب في هدم بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه، ولعمر الله والحقّ لئن استمرّ هذا الحال من تخاذلنا وتضارب بعضنا ببعض وتكالب الأعداء علينا من كلّ حدب وصوب، لنذهبن ذهاب أمس الدابر، ولا يبقى لهذه الطائفة أثر ولا عين، فالله الله يا عباد الله الصالحين في جمع الكلمة، ولمّ الشعث، وتدارك الخطر قبل فواته، ورتق الفتق قبل اتّساعه، ونبذ تلك المشاجرات المفرّقة والمؤجّجة لنيران العداوة المحرقة على غير طائل.

كونوا يا عبد الله إخوانًا في دين الله، رحماء بينكم، أشدّاء على أعدائكم، ولا تعكسوا الآية…».

[15] للمرجع الدينيّ الكبير الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله) كلمةٌ بالغة الأهمّية، قال فيها: «فالواجب الشرعي أن تحفَظ الشعائر الحسينيّة بكلّ قوّة وحسم، وأن تكون في كلّ سنة أفضل من التي قبلها.

نعم، المسألة بهذا المستوى وأقوى، لماذا؟ لأنَّ أساس عاشوراء إذا صار واهنًا توجّه الخطر إلى الدين كلّه، فإنَّ بقاء الدين بعاشوراء، وبقاء توحيد الله مرتبطٌ بيوم عاشوراء» [الحق المبين: ص325].

[16] سورة التوبة: 122.

[17] راجع المسألة (57) من باب (الاجتهاد والتقليد) من العروة الوثقى.


طباعة   البريد الإلكتروني