وقفة مع تحليل العرفاء لروايات ثواب شعيرة البكاء

(وقت القراءة: 5 - 10 دقائق)

200704 210030

لقد طرح بعض العرفاء نظريةً عبّروا عنها بـ(نظرية البهجة)، وهي مأخوذةٌ من كلام شاعر العرفاء (جلال الدين الرومي) في مثنوياته، حيث يحكي أنَّ شاعرًا دخل إلى حلب يوم عاشوراء، فوجدها في نياحة وعزاء، فأراد أن يشاركهم بشعره في احتفائهم بتلك المصيبة، فسألهم: بمن تحتفون؟ قالوا: نحتفي بذكرى الحسين بن علي (عليه السلام)، فقال: أتحتفون بذكرى الحسين بالبكاء والعزاء؟! أنتم أولى بالعزاء والبكاء على أنفسكم من الحسين! وأما الحسين (عليه السلام) فحقّه البهجة والسرور.

ثم كتب منظومة شعرية يتغنّى بها العرفاء مفادها أنَّ سيد الشهداء (عليه السلام) قد عرج إلى السماوات العلى، ووصل إلى الحريم الأعلى، ومن وصل إلى ذلك المقام فحقّه أن نبتهج بما حصل له، لا أن نحزن عليه.

وهذه الفكرة هي التي نقرؤها في سيرة العارف السيد هاشم الحدّاد، حيث ذكر العلامة الطهراني (رحمه الله) في ترجمته للسيد الحداد أنه كان إذا حلّ عليه شهر المحرم تكون تلك الأيام أيام بهجته وسروره، حتى أنه يبكي من شدة الفرح، وكان يقول: لو اطلع الناس على جزء مما حصل للحسين (عليه السلام) لانقلبت حياتهم بهجةً وسرورًا، ولسجدوا لله تعالى شاكرين فرحين جذلين إلى يوم القيامة[1].

وحين يقال لهؤلاء العرفاء: هنالك روايات متواترة صحيحة وصريحة عن المعصومين (عليهم السلام) تؤكد على محبوبية البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، فكيف تتعاملون مع أيام عاشوراء بالبهجة والسرور؟!

فإنّهم يجيبون: إنَّ مثل هذه الروايات إنَّما هي موجَّهة للغافلين، الذين تشبّثوا بالحياة الدنيا، ولم يطّلعوا على الملأ الأعلى، ولا زالوا يعيشون الإغراق والاستغراق في وادي الغفلة.

وأمّا الأشخاص الكاملون العارفون -الذين بلغوا مراتب عالية من المعرفة والاطّلاع على المقامات الملكوتية لسيد الشهداء (عليه السلام)- فليست هذه الروايات ناظرةً لهم، بل هم يفرحون ويستبشرون بما حصل لسيد الشهداء (عليه السلام) من الترقّي إلى الحريم الأعلى.

ولنا مع هذه النظرية وقفتان:

الوقفة الأولى: بيان مرتكز نظرية البهجة. إنَّ هذه النظرية تبتني على ما يعبّر عنه العرفاء بـ(الكشف والمشاهدة)، ولا بدَّ من توضيح هذا المرتكز لنرى هل يوصل للنتيجة التي يريد هؤلاء إثباتها أم لا.

وهذا ما يدعونا لبيان ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: الفرق بين العلم الإفاضي والعلم الاكتسابي. إنَّ العلم الاكتسابي هو العلم الذي يحصل عليه الإنسان عن طريق التعلّم والاستدلالات العقلية، ويقابله نحوٌ آخر من العلم يعبِّر عنه العرفاء بـ(العلم الإفاضي) أو (العلم الشهودي) أو (العلم الإشراقي).

وهذا النحو من العلم لا يحصل عليه الإنسان من طريق الاستدلالات العقلية، بل هو طورٌ آخر وراء طور العقل، وإنّما يحصل من خلال إشراق الأنوار الإلهية على نفس الإنسان، كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس العلم بكثرة التعلّم، إنما هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه»[2]، فالعلم الذي يحصل عن طريق التعلّم ليس علمًا، وإنما العلم الحقيقي هو العلم الذي يشرق كالنور على نفس الإنسان، وبه تصبح نفس الإنسان عالمةً ومحيطةً بالحقائق والمعارف الإلهية.

ولا يتميّز العلم الإفاضي على العلم الاكتسابي من ناحية المنشأ فحسب، بل يتميّز عليه من ناحية الأثر أيضًا، فإنَّ العلم الاكتسابي مجرد إذعان واعتقاد قلبي، بينما العلم الإفاضي مشاهدة يقينية للحقائق والمعارف، وهذا كالفرق بين السماع عن النار ورؤيتها، فالعلم الاكتسابي مهما ترقّى هو بمثابة من سمع عن النار، بينما العلم الإفاضي بمثابة من رأى النار ولامسها واطّلع على حقيقتها.

فتبيّن ممّا ذكرناه: أنَّ العلم الإفاضي يختلف من حيث الجوهر والحقيقة عن العلم الاكتسابي، الذي هو مجرّد استدلالات عقلية يذعن بها قلب الإنسان.

النقطة الثانية: شروط العلم الإفاضي. إنَّنا لا نختلف مع هؤلاء العرفاء في وجود نحوٍ من العلم يعبَّر عنه بالعلم الإفاضي الإشراقي الشهودي؛ فإنَّ آيات القرآن الكريم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد على وجود هذا النحو من العلم، وإنَّما الكلام في أنَّ هذا العلم الإفاضي لا يحصل اعتباطًا، بل هو مشروطٌ بشروط متعدّدة، نركّز منها على شرطين:

الشرط الأول: التخلية والتحلية. والمراد بهذا الشرط: تهذيب النفس عن الرذائل الأخلاقية والإدراكية، وتحليتها بالفضائل الأخلاقية والإدراكية، فمن ناحيةٍ: توجد رذائل أخلاقية لا بدّ من تهذيب النفس عنها، كالغرور والحسد والرياء، ومن ناحية أخرى: هنالك رذائل إدراكية لا بدّ من تنزيه النفس عنها أيضًا، كالاعتقاد بأنَّ الله تعالى جسمٌ، وكالاعتقاد بعدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكالاعتقاد بعدم وجود الإمام المهدي (عجل الله فرجه).

ولا يمكن أن تكون النفس مؤهلةً للعلم الإفاضي ما لم تتحقق التخلية أوّلًا؛ إذ النفس بمثابة المرآة، فكلما كانت المرآة صافية كانت الصورة عليها واضحة جلية، فإذا صُقِلَت المرآة صقلًا شديدًا دقيقًا انعكست الصور عليها بجلاء ووضوح، وأما إذا كانت المرآة مشوبة بالغبار والشوائب فلا يمكن أن تنعكس عليها الصور، ولو انعكست فإنّما تنعكس بمقدار صفائها وصقلها.

وهكذا هي النفس البشرية، فإنَّ الإنسان عندما يهذّبها عن الرذائل الأخلاقية والإدراكية تصبح مصقولةً، فتنعكس عليها أنوار الله تعالى، وتصبح عالمة بالعلم الإفاضي، وأمّا إذا لم يهذبها الإنسان فلا يمكن أن تنعكس عليها الأنوار الإلهية.

الشرط الثاني: مطابقة التخلية والتحلية للشريعة المقدسة. وهذا الشرط يندكّ في الشرط الأول ويرتبط به ارتباطًا وثيقًا، فلا يمكن لشخصٍ أن يصبح عارفًا وهو لا يعتقد بولاية أهل البيت (عليهم السلام) مثلًا، أو يصبح عارفًا – من خلال الرياضات الروحية المعتمدة على التخلية والتحلية – وهو يعتقد بأنَّ الله تعالى جسمٌ، وأنه ينزل على حمارة في كل ليلة جمعة، وأنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) يفعل الصغائر بل قد يفعل الكبائر.

فمثل هذه الاعتقادات يعتبرها صاحبها فضيلة إدراكية، لأنها على طبق المدرسة التي هو يعتقد بفكرها وعقيدتها، والحال أنَّها في الواقع رذائل إدراكية، فلا يمكن لمثل هذا الشخص أن تصفو نفسه لتلقي أنوار الله، إذ ليست المسألة مستندةً إلى التخلية والتحلية كيفما كانت، ولذلك فإنَّ الرياضات التي يبتدعها المتصوفة وبعض العرفاء لا قيمة لها أبدًا، وإنّما يصل الإنسان إلى مرتبة تلقي العلم الإفاضي بالتخلية والتحلية التي تكون على وفق تعاليم الشريعة المقدّسة.

ومن هنا تعرف أنَّ كشف الدعاوى الزائفة – وما أكثرها في هذا الزمان – أمرٌ في غاية السهولة، فعندما يأتيك شخصٌ يدّعي أنّه من أهل الكشف والشهود فما عليك سوى أن تختبر شخصيته، لترى هل عنده رذائل أخلاقية أو إدراكية أم لا؟ فإن كانت عنده ولو رذيلة واحدة فهو كاذبٌ في دعواه، حتى ولو كان معروفًا بالصدق، فقد يتوّهم أنَّ الكشف الذي يحصل له كشفٌ رحمانيٌّ، والحال أنّه كشفٌ شيطانيٌّ.

وهذا ما تحدّث عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ﴾[3]، فكما يوجد كشف رحماني يوجد في مقابله كشف شيطاني، وقد يظنّ الإنسان المسكين أنّه ينتهج منهج العرفاء، وتحصل له حالات مع الله تعالى، وتنكشف له بعض الحقائق، ويتصوّر أنه وصل إلى مراتب عالية! ولا يعلم أنّه مجرّد لعبة يعبث بها الشيطان كما يحب ويوحي لها ما يريد.

النقطة الثالثة: مخالفة نظرية البهجة لتعاليم الشريعة المقدّسة. تبيّن من النقطة الأولى أنَّ نظرية البهجة ترتكز على مسألة الكشف والمشاهدة، فمن خلال العلم الإفاضي – الذي يفيضه الله تعالى على قلب من يشاء – يزعم هؤلاء أنّهم اطّلعوا على حقائق ملكوتية تتعلّق بشهادة الحسين (عليه السلام)، ولو اطلع عليها جميع العالم لذابوا من الفرح والبهجة بما حصل لسيّد الشهداء (عليه السلام) يوم عاشوراء، حيث وصل إلى الحريم الأعلى.

وتبيّن من النقطة الثانية أنَّ هذا العلم الإفاضي إنَّما يكون بعد التخلية والتحلية المطابقة لتعاليم الشريعة.

ومن هنا يتّضح وجه الثغرة في هذه النظرية، فإنّها تقول: اجعلوا أيام عاشوراء أيام بهجة وأيام سرور، بينما الروايات الشريفة تحثّ على البكاء حثًّا بالغًا، وتعتبره وسيلة القرب من الله تعالى، وهذا ما يوجب طرح نظرية البهجة؛ لأنّه لا يمكن القبول بالعلم الإفاضي المخالف لتعاليم الشريعة المقدّسة.

ولا يقال: إنَّ هذه الروايات موجَّهة لأهل الغفلة!

فإنّه يقال: هب أنّها كذلك، لكن ماذا نصنع بمثل قول الإمام الحجّة (عجل الله فرجه): «فلأندبنك صباحًا ومساء، ولأبكين عليك بدل الدموع دمًا»[4]؟! وقول الإمام الرضا (عليه السلام): «إنَّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا… إلى أن قال: كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرَى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه»[5]؟! فهل بلغ هؤلاء العرفاء إلى مرتبة انكشف لهم فيها حال الحسين (عليه السلام) بنحوٍ يستدعي البهجة والسرور، بينما لم يصل لتلك المرتبة العالية الإمامُ المعصوم؟! أيّ عارف هذا الذي يدّعي الوصول إلى مقام لم يصل إليه المعصوم؟!

فالمعصوم الذي انكشفت له عوالم الملك والملكوت، وأحاط بكل صغيرة وكبيرة فيها، يضجّ بالبكاء والصيحة على الحسين (عليه السلام)، بل الكون بأسره – من إنسٍ وجنٍّ وملائكة وما يُرَى وما لا يُرَى – يضجّ بالبكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ أبا عبد الله (عليه السلام) لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، وما ينقلب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يُرَى وما لا يُرَى»[6].

الوقفة الثانية: بيان وجه المغالطة في نظرية البهجة. إنَّ هذه النظرية – بغضّ النظر عن خطأ مرتكزها – تتضمّن مغالطةً فادحةً، وهي الخلط بين حالتين:

حالة ارتباط الحسين مع الله تعالى. وحالة ارتباط الخلق مع الحسين (عليه السلام). فعندما نتحدّث عن حالة الحسين (عليه السلام) مع الله تعالى فهي حالة بهجة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، إذ كلما اقترب من مصرعه الشريف ازداد وجهه تألّقًا ونورًا، وازداد بهجةً وسرورًا بلقاء ربّه تعالى.

وفي المقابل فحالة ارتباط الخلق مع الحسين (عليه السلام) مختلفة تمامًا، وهي حالة الحزن والتفجّع والبكاء، فالبهجة والسرور إنما هي لروح الحسين (عليه السلام) باعتبار علاقته مع الله تعالى، ولا ينبغي خلط ذلك بحالة الخلق مع سيّد الشهداء (عليه السلام).

وقد ركّز الحسين (عليه السلام) نفسه على كلتا الحالتين، حيث قال في خطبته عند خروجه من مكّة: «خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف»، فعبّر بذلك عن حالة البهجة والاشتياق والتلهّف للقاء الله تعالى، ثم تحدّث عن حالة ارتباط الخلق به، وهي الحالة الموجبة للتفجّع والحزن والبكاء، فقال: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشًا جوفى، وأجربة سغبى، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت»[7].

وحالة البهجة التي غمرت قلب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) قد نفذت إلى قلوب أحبّته وأنصاره، فهذا القاسم بن الحسن (عليه السلام) – وهو الذي ما بلغ الرابعة عشر من عمره – يعيش هذه الحالة من البهجة والسرور والتعلّق بالله تعالى من خلال إمام زمانه، ولذلك حين «قال له سيّد الشهداء (عليه السلام): يا بن أخي، كيف الموت عندك؟ قال: يا عم، أحلى من العسل»[8].

وفي المقابل، كانت هناك علاقة بين القاسم والخلق، حيث نجد أنَّ الحسين (عليه السلام) قد بكى عند مصرع القاسم، مع أنّه كان مطّلعًا حتمًا على حالة البهجة الملكوتية التي وصلها القاسم بالشهادة، لكنه بكى من جانب علاقته بابن أخيه (عليه السلام).

الهوامش: [1] الروح المجرّد: ص81.

[2] بحار الأنوار: ج70، ص140.

[3] سورة الأنعام: 121.

[4] المزار الكبير، لابن المشهدي: 501.

[5] أمالي الصدوق: المجلس ٢٧، الرقم ٢؛ نقلًا عن بحار الأنوار: ج44، ص248.

[6] كامل الزيارات: ص80.

[7] اللهوف في قتلى الطفوف: ص38.

[8] الهداية الكبرى، للخصيبي: ج1، ص204.


طباعة   البريد الإلكتروني