تاريخ الحوزات الشيعية ١

(وقت القراءة: 3 - 6 دقائق)

بدأت حوزاتنا العلمية ودروس الإجتهاد بشكل منظم في العهد العباسي ، منذ أن وجدت لها نافذة على الحرية وموطئ قدم في مدينة بغداد عاصمة العباسيين حينذاك ، بعد ما اطمئنوا من وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام الذي كانوا قد شددوا عليه الرقابة ، وضيقوا عليه الخناق ، حتى يقضوا على المهدي المنتظر عليه السلام المرتقب أن يولد من صلب أبي محمد العسكري عليه السلام ، لكن توفي أبو محمد عليه السلام ولم يخلف في نظرهم ولدا ، ولا ترك وريثا ذكرا ، فاطمئنوا أن لا أساس لوجود المهدي المنتظر عجل الله فرجه على حد زعمهم ، وكيف كان فقد تنفس المذهب وأهله لا سيما علماؤه الصعداء ، واستنشقوا الهواء العذب إلى حين ، بعد قرون من الظلم والاضطهاد ، والعمل في الخفاء خوفا من الملاحقة والسجن والقتل والتشريد.

وكان ذلك في عصر الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، حيث استقل كثير من بلاد المسلمين عن الدولة الإسلامية الكبرى والخلافة الام المتمثلة انذاك في الحكم العباسي ، وظهرت الدويلات والإمارات الإسلامية التي حكمها الامراء وملوك الطوائف بعيدا عن السلطة المركزية يومئذ ، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى مجموعة بلاد إسلامية ، ومن هنا قد تجسدت بعض امال الشيعة تحققت بعض أمانيهم حيث انعقدت نطفة أول دولة شيعية وانطلقت للعيان فكرة إنشاء أول مدينة إسلامية على نهج أهل البيت عليهم السلام بعد عصر المعصومين عليهم السلام ، وفي زمن الغيبة الكبرى متجسدة في الدولة البويهية التي أنشأها الأمير عضد الدولة البويهي من ديالمة الفرس ؛ إذ كان له رحمه الله قصب السبق في نصرة التشيع ، واليد الطولى في نشر المذهب ، وبسط معالمه ، وترسيخ دعائمه ، وتثبيت أركانه ؛ وذلك بفضل استعانته بشيخ مشائخ الطائفة وزعيمها على الإطلاق ، أعني مولانا الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، وتلبية رغباته جميعا ، وتحقيق أوامره بعد أن أكرمه أشد تكريم ، وتمثل لأوامره بإنشاء أول حوزة شيعية وأفضل مدرسة علمية إمامية في بغداد عاصمة البويهين بعد طول غيبة للحريات وطول هجران لهذا المذهب من قبل الحكام والخلفاء بالحرب الإعلامية والتصفيات الجسدية التي مارسوها على المذهب الحق وأهله وكافة المنتسبين إليه ، فالتحق بها المتعطشون إلى العلم والمعرفة والفضيلة وتخرج منها جمع غفير من علماء الطائفة وأعلام المذهب كالعلمين السيدين المرتضى والرضي وشيخ الطائفة الطوسي أعلى الله تعالى مقاماتهم ، الذي انتقل فيما بعد إلى نجف الأشرف ووضع الحجر الأساس واللبنة الاولى لتأسيس الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف بعد أن نجحت مؤامرات الأعداء في إسقاط الدولة البويهية والقضاء عليها وصار الشيخ مستهدفا من قبل الغزاة ، ولهذا كانت بغداد معقلا لأول جامعة دينية في عصر غيبة المعصوم عليه السلام ، كما كانت في تلك الحقبة الزمنية مركزا للعلوم والفنون المختلفة لكافة المذاهب والتوجهات الإسلامية ، فوجد الفكر الإسلامي فيها مجالا خصبا للنمو وتبادل الاراء والأنظار ، ومقارعة الحجج والبراهين ، والرقي والتكامل والانتشار ، وإن لم يخل ذلك من جوانب سلبية أدت إلى نشر بعض الأفكار الباطلة والمذاهب الضالة.

وبعد أن ضاقت الخلافة العباسية ذرعا ، لا سيما بفعل الدسائس والفتن التي بثها بعض علماء المذاهب المناوئة للمذهب الجعفري ، مارس الخليفة وأزلامه ظغوطا شديدة على علماء المذهب وأجبروهم على الرحيل إلى مدينتي الري وقم الفارسيتين منذ الأعوام الاولى من الغيبة الكبرى بحثا عن الأجواء الامنة والظروف الملائمة ، وإن كانت هاتان المدينتان مقرا لجمع غفير من الشيعة منذ أمد طويل ، وكان قد برز فيهما بعض أعلام الطائفة من الفقهاء والمحدثين منذ الغيبة الصغرى كالمرحوم الشيخ الكليني أعلى الله مقامه الشريف مصنف أبرز كتب الحديث ، أعني الكافي ، وهو أحد أشهر الكتب الأربعة في المذهب الإمامي الاثني عشري ، وهكذا الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه الشريف ، مصنف الكتب العديدة ، لا سيما كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ، وهو من الكتب الأربعة أيضا ، وهكذا ابن بابويه القمي والد الشيخ الصدوق ، وكذلك أخوه ، حيث سمي الشيخ الصدوق وأخوه بالصدوقين ، وكلهم من أجلاء الأصحاب وأعلام الطائفة ، لكن جميع هؤلاء الأعلام تلقوا علومهم في بعض مدن العراق لا سيما العاصمة بغداد.

إلا أن هذه النقلة لم تدم طويلا ، وعادت الدراسة الدينية والنشاطات العلمية الشيعية إلى بغداد في التفرة الأخيرة من الحكم العباسي بفضل الجهود التي بذلها شيخ الطائفة أعلى الله مقامه الشريف ، والظروف التي أحدقت بالنظام العباسي فزلزلت حكمهم ، وقلصت من سلطتهم ، وأصحت بغداد ، وبالتحديد في جانب الكرخ من هذه المدينة ، تعج بطلبة العلوم الدينية وعشاق المعارف الإلٰهية الصادرة من النبع الصافي والفكر الأصيل لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم أفضل صلوات المصلين ، وكان الشيخ الطوسي قدست نفسه الزكية محل احترام وتقدير لدى كافة علماء المسلمين وإن كانت عظمة شأنه وجلالة قدره لم تشفع له عند المبغضين وناصبي العداء لأهل البيت عليهم السلام ولشيعتهم ، فلاقى منهم ما لاقى أهل البيت عليهم السلام من أسلافهم.

ومع الغزو البربري التركي السلجوقي على العراق والبلاد الإسلامية جمعاء ، لا سيما عزوهم لبغداد العاصمة بسبب الصراعات الداخلية والخلافات الشديدة التي عاشتها الحكومة المركزية ، والانشقاق والتمزق وضعف الإرادة لدى مركز الخلافة العباسية ، واشتغال الخليفة بالامور الهامشية ، والانغماس في الملذات والشهوات ، واتساع الهوة بينه وبين الرعية بتسليط الأتراك على رقاب المسلمين ، لهذه الأسباب وغيرها مما لا مجال إلى سردها في هذه الوجيزة رحل العلم وأهله من بغداد ، وشدت الجامعة العلمية الشيعية رحالها إلى مدينة الحلة الشهيرة في العراق ، فحطت وأناخت برحلها هناك ، وقامت المعاهد والمدارس والمراكز العلمية الإمامية على قدم وساق مزدهرة بحلقات الدروس ، مكتظة مزدحمة بأهل العلم وطلابه ، وتطورت دراسة الفقه والاصول ومباني الاجتهاد في بغداد ثم الحلة تطورا كبيرا ، وظهرت منهجية في غاية الدقة والاتقان ، سيما بعد أن ظهر فطاحل الفقه والاصول وأساطينهما ، كالمحقق الحلي صاحب الشرائع ، والعلامة الحلي صاحب المصنفات العظيمة ، وابنه فخر المحققين صاحب المعالم ، والشهيد الأول صاحب اللمعة الدمشقية ، وابن ورام صاحب مجموعة ورام ، والسيد ابن طاووس ، وأمثالهم من الأعاظم والفقهاء ، واستمرت الحركة العلمية في الحلة حتى مع تأسيس حوزة النجف ، وظلت ناشطة لمدة مديدة رغم وجود الحوزة العلمية التي أنشأها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه الشريف.

وأما النجف الأشرف فمنذ أن حل بها شيخ الطائفة لمع نجمها في سماء العلم والفضيلة ، وصارت مأوى العلم والعلماء وملجأ طلاب العلم والفضيلة يشدون إليها الرحال ، ويعلقون عليها الامال ، فاستقرت الزعامة الدينية والقيادة العلمية والمرجعية الفقهية في هذه المدينة المقدسة طيلة القرون والأعصار المتمادية ، فكانت مصدر الخيرات ومنبع البركات لمذهب أهل البيت عليهم السلام منذ نشأتها إلى يومنا هذا ، وكيف لا وفيها ضريح مدينة علم الرسول صلى الله عليه واله علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، فقد تخرج منها أقطاب الإمامية وأعلامها ، وأساطين الفقه وأعاظمه ، وفحول الأدب والشعراء ، ونوابغ المتكلمين ، وأعاظم الحكماء والفلاسفة ، وأعمدة المفسرين ، بالإضافة إلى فطاحل في علم الرياضيات والحساب والهندسة والجبر والطب والفلك والعلوم الغربية ، كالجفر وعلم حروف الجمل ، ناهيك عن أصحاب القلم والمفكرين الإسلاميين والخطباء المفوهين ، فضلا عن الزعماء الدينيين والفقهاء المجاهدين الذين بفضل جهودهم وجهادهم وحسن تقديرهم وحنكتهم السياسية وفتاواهم الصارمة وشجاعتهم الحيدرية وبطولاتهم في ميادين التصدي والدفاع والجهاد ظلت راية الحق ومعالمه خفاقة ترفرف تحت ظل العناية العلوية ورعاية بقية الله الأعظم أرواحنا فداه رغم انوف المعاندين والمكابرين.

مقتبس من كتاب كيف نفهم الرسالة العملية الجزء الثاني


طباعة   البريد الإلكتروني