تاريخ الحوزات الشيعية ۲

(وقت القراءة: 3 - 5 دقائق)

في القرن الرابع الهجري ، وفي ظل الحكم الشيعي الذي شيده البويهيون في العراق وبعض البلاد المجاورة اقيم أول محفل علمي في مدينة كربلاء إلى جوار مريد سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام بفضل العالم الجليل والمحدث القدير صاحب التصانيف الكثيرة ، وراوي أكثر الاصول الشيعية الأربعمائة ، الشيخ حميد بن زياد النينوي ، فكان اول نواة لتأسيس وإنشاء مركز علمي وحوزة شيعية علمائية ، ثم انتقل إليها الفقيه المكنى ب أبي حمزة ، من تلامذة المرحوم شيخ الطائفة ، وشهدت هذه الحوزة ازدهارا كبيرا ، وحفلت بكبار الفقهاء والمجتهدين في فترات عديدة وعصور مديدة ، وتخرج منها العديد من الأجيال حتى أنها صارت في بعض الفترات مركزا دون منافس للزعامة الدينية والمرجعية الشيعة ، ومن أهم البارزين فيها ، أو الراحلين إليها والنازلين بها ، من أعيان الطائفة يمكن تسمية الشيخ ابن فهد الحلي أعلى الله مقامه ، والفقيه الأخباري الكبير الشيخ يوسف البحراني قدس سره ، والعلامة محمد باقر الملقب ب الوحيد البهبهاني قدس الله روحه ، الذي أحدث ثورة في اصول الفقه الجعفري ، ونهض بأعباء الذب عن معالم الاصول الشيعية في تصديه لهيمنة الفكر الأخباري ، وإلحاق الهزيمة بمشايخهم في عقر دارهم ، فظهر على يديه ، وترعرع في أحضان حلقات درسه المفعمة بالإيمان ، والمشيدة على اسس راسخة من العلم والبرهان ، جيل عظيم من أساطين العلم وقادة المذهب ، كالمرحوم السيد مهدي بحر العلوم ، والمرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والمولى مهدي النراقي ، وغيرهم من الأعلام أعلى الله مقامهم ، ممن كانوا مصابيح في سماء العلم والفضيلة ، وأعيانا للمذهب الحق يقتدي بهم طلاب الحق والفضيلة ، كما برز فيها أيضا المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين وزعيم الطائفة في عصره ، وهكذا برز المرحوم الحاج اقا حسين القمي قدس الله روحه ، وغيرهم كثيرون.

كما احتضن الجنوب اللبناني ، وعلى وجه التحديد منطقة جبل عامل ، أحد المراكز الشيعية والحوزات العلمية بعدما هاجر منها العديد من الشباب الغيارى ومحبي المعارف العلوية والعلوم الجعفرية إلى العراق وغيرها من الحوزات العلمية والمراكز الشيعية طلبا للعلم والمعرفة من نبعها الصافي ثم عادوا إلى ذويهم يحملون سلاح العلم والمعرفة يبثونه هنا وهناك ، ويذودون به عن الشريعة الغراء ، بدءا بالمحقق العلامة الكراجكي ، والمحقق العلامة الكركي ، الملقب بالمحقق الثاني ، والعلامة الشيخ البهائي ووالده ، والعلامة المحدث الشيخ الحر العاملي المشهور بصاحب الوسائل ، وهكذا المجلسيين أعني العلامة المحدث الشيخ محمد تقي المجلسي ، ونجله العلامة المحدث الشيخ محمد باقر المجلسي المعروف بصاحب البحار ، والعلامة الفقيه الشهيد الثاني ، وانتهاء بالعلامة السيد عبدالحسين شرف الدين ، والسيد محسن الأمين وأضرابهم كثيرون.

هذه أبرز وأشهر الحوزات العلمية والجامعات الشيعية الإمامية ، لكن انتشار العلم والفضيلة لم يقتصر على هذه المراكز بل انطلق العلماء منها إلى مختلف البلاد وشتى أرجائها ، والمواقع الشيعية ومدنهم المقدسة حيث أنشأوا فيها الحوزات ، وأقاموا فيها المدارس العلمية ، وتخرج منها الكثير من العلماء والأساتذة والفضلاء والخطباء ، كما وقع ذلك في حوزة الكاظمية في العراق ، وحوزة سامراء أيضا في العراق ، حيث أسسها وانتقل إليها المرحوم الميرزا حسن الشيرازي الكبير ، وجمع غفير من تلامذته وعلماء عصره ، وحوزة إصفهان ، لا سيما في العهد الصفوي ، حيث وجد العلماء فيها ضالتهم ، فوفدوا إليها زرافات زرافات بعد أن دعى حكام الصفويين كبار علماء الطائفة وفحول فقهائها للنزوح إلى هذه المدينة ، وإقامة مركز علمي شيعي فيها ، فأقبل إليها المرحوم الشيخ البهائي العاملي ، والمرحوم المحقق الثاني الكركي العاملي ، والشيخ الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة ، والمرحوم محمد تقي المجلسي ، ونجله محمد باقر المجلسي صاحب البحار ، وأضرابهم من أهل العلم والفضيلة ، وهي مستمرة إلى يومنا هذا ، وفي حوزة قم المقدسة التي تعد من المراكز الشيعية الام منذ عهد المعصومين عليهم السلام ، حتى ورد ذكرها في بعض الأخبار والروايات ، وأثنى عليها وعلى أهلها أئمتنا الأطهار عليهم الصلاة والسلام ، فإنها كانت حافلة منذ الغيبة الصغرى بفقهاء الطائفة الحقة ومحدثيها وخيارها ، وكان الأمر فيها على هذه الحال إلى بعد الغيبة الكبرى بقرن كامل تقريبا ، أي كانت مزدهرة ناشطة طيلة مئة وسبعين عاما تقريبا ؛ لأنها كانت في أحلك الظروف وأقساها ، مأمنا للمؤمنين ، وملجئا امنا لهم ، يلوذون إليها من جور الجبابرة ، وظلم المعاندين المخالفين ، وسر عظمتها المكنون فيها أنها تحتضن بابا من أبواب الرحمة الإلهية ، وشفيعة في الدرجات العلية ، والمقامات العالية من الجنة ، وكريمة أهل البيت التي إلى جودها وكرمها يلجأ أهل الحق فلا ترد أحدا من باب جودها ، وإلى كرمها تنتهي المكارم ، ألا وهي سيدتنا ومولاتنا سمية جدتها ، فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليها وعلى ابائها وأخيها الاف التحية والثناء ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم.

وقد اشتهرت هذه الحوزة العلمية ، وزاد صيتها ، وارتفع رصيدها من جديد ، في عهد مؤسسها أو مجددها المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري ، والمرحوم السيد اقا حسين البروجردي قدس الله روحهما ، وهي بعد الثورة الإسلامية المباركة بزعامة الإمام الخميني قدس الله روحه معقل التشيع ، وملجأ المؤمنين ، وملاذ المجتهدين ، ومن هذه الحوزة انتشر النور إلى أقصى العالم وأدناه ، ولا تزال منبعا للفضيلة ، ومصدرا للخيرات والبركات ، يتهافت إليها طلاب العلم والفضيلة من أقاصي البلاد ، ويعودون بالزاد الذي حملوه عن أهل البيت عليهم السلام على أيدي فحول العلم وأصحاب المعرفة ، ويقطنها أكثر مراجع الطائفة وفقهاء الإمامية ممن تلقوا علومهم في حوزة النجف الأشرف ، أو تلمذوا على أيدي علمائها ، وهي حوزة مزدهرة بالعلوم والمعارف وكثرة المكتبات ومليئة بالأنشطة الدينية والثقافية والمدارس ومراكز التحقيق ودور النشر ، وناشطة في مجال التأليف والطباعة والنشر.

كما ينقسم فيها المنهج التعليمي إلى المنهج التقليدي القديم ، والتقليدي المشوب بالتحديث ، والمنهج الحديث الذي يمنح طلابه شهادات تعادل الشهادات الجامعية المعاصرة ، وتتمتع بإدارتين مستقلتين ، إدارة خاصة بالطبعة الايرانيين ، وإدارة اخرى خاصة بالطلبة غير الايرانيين ، وإن كانت تلتقي في مديرية واحدة مشتركة.

وأخيرا الحوزة العلمية بمدينة مشهد المقدسة ، وهي أيضا كانت منذ القدم ولا تزال حوزة ناجحة ، ناشطة ، مزدهرة بالعلماء والمحققين وطلبة العلوم الدينية ، كما لا تخلو مدينة شيعية أو بلدة يقطنها عالم شيعي أو بعض علماء الطائفة إلا وتجد فيها مدرسة علمية أو حوزة مصغرة ينتفع بها طلاب العلم وعشاق الفضيلة ، كما هو الحال في معظم المدن الايرانية ، وبعض المناطق اللبنانية والبحرينية والحجازية والسورية ، وعلى وجه التحديد في بلدة الزينبية ، حيث مرقد العقيلة الهاشمية سيدتنا زينب الكبرى عليها الصلاة والسلام ، وهي تزدهر بالنشاطات العلمية وحلقات الدروس في المدارس والمراكز العلمية ، ومن قبل في حلب وغيرها ، وأشهر من برز فيها المرحوم السيد ابن زهرة ، والشهيد الأول قدس سرهما ، وهكذا.

كما ظهرت بعض المراكز العلمية الشيعية في فترات متقطعة قصيرة في بعض البلاد والمدن الإسلامية ، ثم اختفت واغلقت واندرست اثارها ، كما هو الحال في نيسابور وقزوين وهمدان والأهواز وغيرها.

والحمد لله رب العالمين

مقتبس من كتاب كيف نفهم الرسالة العملية


طباعة   البريد الإلكتروني