ابن تيمية الحرانی

(وقت القراءة: 6 - 11 دقائق)

ليعلم أن أحمد بن تيمية هذا الذي هو حفيد الفقيه المجد بن تيمية الحنبلي المشهور، ولد بحران ببيت علم من الحنابلة، وقد أتى به والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفًا من المغول، وكان أبوه رجلاً هادئًا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولوه عدة وظائف علمية مساعدة له، وبعد أن مات والده ولوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل حضروا درسه تشجيعًا له على المضي في وظائف والده وأثنوا عليه خيرًا كما هو شأنهم مع كل ناشىء حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئًا من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس. وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد، ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عيّن الآخرون في وظائفه للقيَ عيالُه البؤس والشقاء.
وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غر ابن تيمية ولم ينتبه الى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعاً بين حين وءاخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلاتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا انه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلوا عنه واحداً اثر واحد على توالي فتنه.
ثم إن ابن تيمية وإن كان ذاع صيتُه وكثرت مؤلفاته وأتباعه، هو كما قال فيه المحدث الحافظ الفقيه ولي الدين العراقي ابن شيخ الحفاظ زين الدين العراقيّ في كتابه الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية: "علمُه أكبر من عقله"، وقال أيضًا: "إنه خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسئلة بعضُها في الأصول وبعضها في الفروع خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها.اهـ.
وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم، فأسرع علماء عصره في الرد عليه وتبديعه، منهم الإمام الحافظ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي قال في الدرة المضية ما نصه: "أما بعد، فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترًا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرًا أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدس، وأن الافتقار إلى الجزء (أي افتقار الله إلى الجزء: ومعناه أن الله مركب من أجزاء ويحتاج إلى تلك الأجزاء والعياذ بالله تعالى) ليس بمحال،
متن سر تيتر 123
قال بحلول الحوادث بذات الله، وأن القرءان محدَثٌ تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قِدم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقد قال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفةَ القديمة حادثةً والمخلوق الحادث قديمًا، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نِحلة من النِحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمةٍ من الأمم همة، وكل ذلك وإن كان كفرًا شنيعًا مما تقل جملته بالنسبة لما أحدث في الفروع". اهـ.
وقد أورد كثيرًا من هذه المسائل الحافظ أبو سعيد العلائي شيخ الحافظ العراقي، نقل ذلك المحدث الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في ذخائر القصر، قال ما نصه: "ذكرُ المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع، فمنها ما خالف فيها الإجماع، ومنها ما خالف فيها الراجح من المذاهب، فمن ذلك: يمين الطلاق، قال بأنه لا يقع عند وقوع المحلوف عليه بل عليه فيها كفارة يمين، ولم يقل قبلَه بالكفارة أحدٌ من المسلمين البتة، ودام إفتاؤه بذلك زمانًأ طويلاً وعظُم الخطب، ووقع في تقليده جمّ غفير من العوامّ وعمّ البلاءُ.
أن طلاقَ الحائص لا يقع وكذلك الطلاق في طهُر جامع فيه زوجته، وأن الطلاقَ الثلاث يُرد إلى واحدة، وكان قبل ذلك قد نقل إجماع المسلمين في هذه المسئلة على خلاف ذلك وأن من خالفه فقد كفر، ثم إنه أفتى بخلافه وأوقع خلقًا كثيرًا من الناس فيه. وأن الحائضَ تطوفُ بالبيتِ من غير كفارةٍ وهو مباح لها. وأن المكوسَ حلالٌ لمن أقطعها، وإذا أُخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاةِ وإن لم تكن باسم الزكاة ولا على رسمها. وأن المائعات لا تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها وأن الصلاة إذا تركت عمدًا لا يُشرع قضاؤها. وأن الجنبَ يصلي تطوعه بالليل بالتيمم ولا يؤخره إلى أن يغتسل عند الفجر وإن كان بالبلد، وقد رأيت من يفعل ذلك ممن قلده فمنعته منه. وسئل عن رجل قدم فراشًا لأمير فتجنب بالليل في السفر، ويخاف إن اغتسل عند الفجر أن يتهمه بغلمانه فأفتاه بصلاة الصبح بالتيمم وهو قادر على الغُسل. وسئل عن شرط الواقف فقال غير مُعتبر بالكلية بل الوقف على الشافعية يصرف إلى الحنفية وعلى الفقهاء يصرف إلى الصوفية وبالعكس، وكان يفعل هكذا في مدرسته فيعطي منها الجند والعوام، ولا يحضر درسًا على اصطلاح الفقهاء وشرط الواقف بل يحضر فيه ميعادًا يوم الثلاثاء ويحضره العوام ويستغني بذلك عن الدرس. وسئل عن جواز بيع أمهات الأولاد فرجحه وأفتى به.
ومن المسائل المنفرد بها في الأصول مسئلة الحُسن والقبح التي يقول بها المعتزلة، فقال بها ونصرها وصنف فيها وجعلها دينَ الله بل ألزم كلّ ما يُبنى عليها كالموازنة في الأعمال.
وأما مقالاته في أصول الدين منها قوله: إن الله سبحانه محل الحوادث، تعالى الله عما يقول علوًّا كبيرًا. وإنه مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء. وإن القرءان محدَث في ذاته تعالى. وإن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائمًا، فجعله موجبًا بالذاتِ لا فاعلاً بالاختيار، سبحانه ما أحلمه. ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال وهو مردود.
وصرح في بعض تصانيفه بأن الله تعالى بقدر العرش لا أكبر منه ولا أصغر، تعالى الله عن ذلك، وصنف جزءًا في أن علم الله لا يتعلق بما لا يتناهى كنعيم أهل الجنة، وأنه لا يحيط بالمتناهي، وهي التي زلق فيها بعضهم، ومنها أن الأنبياء غير معصومين، وأن نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به أحد إلا ويكون مخطئًا، وصنف في ذلك عدة أوراق. وأن إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى الله عليه وسلم معصية لا يقصر فيها الصلاة، وبالغ في ذلك ولم يقل بها أحد من المسلمين قبله.
وأن عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد حكاه بعض الفقهاء عن تصانيفه. ومن أفراده أيضًا أن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما بل هي باقية على ما أُنزلت وإنما وقع التحريف في تأويلها، وله فيه مصنف، هذا ءاخر ما رأيت وأستغفر الله من كتابة مثل هذا فضلاً عن اعتقاده" اهـ.
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه الفتاوى الحديثية ناقلاً المسائل التي خالف فيها ابن تيمية إجماع المسلمين ما نصه: "وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقًا دائمًا فجعله موجبًا بالذات لا فاعلاً بالاختيار تعالى الله عن ذلك، وقوله بالجسمية، والجهة والانتقال، وأنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر، تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر البراح الصريح".اهـ.
وقال أيضًا ما نصه :"وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصرة غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك" اهـ.
وقال أيضًا ما نصه: "ولا يُغترّ بإنكار ابن تيمية لسن زيارته صلى الله عليه وسلم فإنّه عبد أضله الله كما قال العز بن جماعة، وأطال في الردّ عليه التقي السبكي في تصنيف مستقل، ووقوعه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بعجيب فإنه وقع في حق الله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدن علوًّا كبيرًا، فنسب إليه العظائم كقوله: إن لله تعالى جهةً ويدًا ورجلاً وعينًا وغير ذلك من القبائح الشنيعة" اهـ.
وقد استتيب مرات وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل مرة حتى حُبس بفتوى من القضاة الأربعة الذين أحدهم شافعي والآخر مالكي، والآخر حنفيّ والآخر حنبلي وحكموا عليه بأنه ضالّ يجب التحذير منه كما قال ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ وهو من تلامذة ابن تيمية وسيأتي، واصدر الملك محمد بن قلاوون رحمه الله منشورًا يُقرأ على المنابر في مصر وفي الشام للتحذير منه ومن أتباعه.
وهذه صورة استتابته منقولة من خط يده كما هي مسجلة في كتاب نجم المهتدي وعليها توقيع العلماء ونصها: "الحمد لله، الذي أعتقده أن في القرءان معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق، وليس حرف ولا صوت، وليس هو حالاًّ في مخلوق أصلاً ولا ورق ولا حبر ولا غير ذلك،
والذي أعتقده في قوله: {الرحمن على العرش استوى} أنه على ما قال الجماعة الحاضرون وليس على حقيقته وظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلم ذلك إلا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه لا أعرف كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله، وليس على حقيقته وظاهره كما قال الجماعة الحاضرون، وكل ما يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل، وكل ما في خطي أو لفظي مما يخالف ذلك فهو باطل، وكل ما في ذلك مما فيه إضلال الخلق أو نسبة ما لا يليق بالله إليه فأنا بريء منه فقد تبرأت منه وتائب إلى الله من كل ما يخالفه. كتبه أحمد بن تيمية، وذلك يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة.
وكل ما كتبته وقلته في هذه الورقة فأنا مختار في ذلك غير مكره، كتبه أحمد بن تيمية حسبنا الله ونعم الوكيل".
وبأعلى ذلك بخط قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ما صورته: اعترف عندي بكل ما كتبه بخطه في التاريخ المذكور. كتبه محمد بن إبراهيم الشافعي، وبحاشية الخط: اعترف بكل ما كتب بخطه، كتبه عبد الغني بن محمد الحنبلي.
وبآخر خط ابن تيمية رسوم شهادات هذه صورتها: كتب المذكور بخطه أعلاه بحضوري واعترف بمضمونه، كتبه أحمد بن الرفعة.
صورة خط ءاخر: أقرّ بذلك، كتبه عبد العزيز النمراوي.
صورة خط ءاخر: أقر بذلك كله بتاريخه، علي بن محمد بن خطاب الباجي الشافعي.
صورة خط ءاخر: جرى ذلك بحضوري في تاريخه، كتبه الحسن بن أحمد بن محمد الحسيني.
وبالحاشية أيضًا ما مثاله: كتب المذكور أعلاه بخطه واعترف به، كتبه عبد الله بن جماعة.
مثال خط ءاخر: أقر بذلك وكتبه بحضوري محمد بن عثمان البوريجبي" اهـ.
وكل هؤلاء من كبار أهل العلم في ذلك العصر، وابن الرفعة وحده له "المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي" في أربعين مجلدًا.
ولولا أن ابن تيمية كان يدعو العامة إلى اعتقاد ضدّ ما في صيغة الاستتابة هذه بكل ما أوتي من حول وحيلة لما استتابه أهلُ العلم بتلك الصيغة وما اقترحوا عليه أن يكتب بخطه ما يؤاخذ به إن لم يقف عند شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توّج خطه قاضي القضاة البدر ابن جماعة بالعلامة الشريفة وشهد على ذلك جماعة من العلماء كما ذكرنا، وحفظت تلك الوثيقة بالخزانة الملكية الناصرية، لكن لم تمض مدة على ذلك حتى نقض ابن تيمية عهوده ومواثيقه كما هو عادة أئمة الضلال ورجع إلى عادته القديمة في الإضلال.
قال الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في فتاويه ما نصه: "وهذا الرجل (يعني ابن تيمية) كنت رددتُ عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به، ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه كما في هذه المسئلة (أي مسئلة في الميراث) ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحدّ جدًّا، وهو كان مكثرًا من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جاسرته واتساع خيال وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات" اهـ.
قال صلاح الدين الصفدي تلميذ ابن تيمية والتقي السبكي في أعيان العصر وأعوان النصر (مخطوط) ما نصه:
"انفرد (أي ابن تيمية) بمسائل غريبة، ورجّح فيها أقوالاً ضعيفة، عند الجمهور معيبة كاد منها يقع في هُوّة، ويسلم منها لما عنده من النية المرجوة، والله يعلم قصده وما يترجح من الأدلة عنده، وما دمر عليه شىء كمسئلة الزيارة، ولا شُنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة معتقلاً، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدباء، ولا درج منها إلا إلى البقعة الجدباء" اهـ. قال ذلك فيه بعد مدحه مدحًا كثيرًا.
وكان الذهبيّ وهو من معاصري ابن تيمية مدحه في أول الأمر ثم لما انكشف له حاله قال في رسالته بيان زغل العلم والطلب ما نصه: "فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاءً من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحقّ والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أخّره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبرُ والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه،

 


طباعة   البريد الإلكتروني