زواج المتعة

(وقت القراءة: 11 - 21 دقائق)

ImageHandler.ashxلم تزل مسألة المتعة ـ مع أنّها من المسائل الفرعية ـ مثاراً للاهتمام والنقاش،فأهل السنة على ردها وادّعاء نسخها.

والشيعة عن بكرة أبيهم على أنّها زواج مشروع نزل بها القرآن الكريم، ومارسها الصحابة عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده.

وقد كتب أحد الكتّاب ـ المدعو محمد الالوسي ـ مقالاً حول المتعة نشرتها صحيفة اللواء على صفحاتها، وقد قرأت المقال أثناء رحلتي الأُولى إلى الأُردن عام 1418هـ ، فكتبت مقالاً في ردّه، وتفضل رئيس تحرير الصحيفة مشكوراً بنشرها( [858]).

وإليك المقال مع تقديم بقلم رئيس تحريرها.

العلاّمة سبحاني: «ما اختلفنا في النبي... اختلفنا فيما روي عنه»

يطرح الأُستاذ آية اللّه جعفر سبحاني في هذا المقال رأي الشيعة في قضية «نكاح المتعة»، و يقدم من الأدلة والحجج و البراهين حول جوازها وعدم نسخها بأُسلوبه المميز وفكره الموضوعي،وعلمه الغزير ما يدفعنا إلى نشر مقاله إيماناً منّا بحرية الرأي الآخر وضرورة فتح صفحات الحوار بين المسلمين مهما اختلفت الرؤى والاجتهادات.

الشيخ سبحاني، واحد من أعلام الفقه والفكر، صدر له أكثر من مائة كتاب في الملل والنحل والتفسير والفقه وعقائد الإسلام والإلهيات، درس على يد الأعلام، السيد البروجردي، و السيد محمد حسين الطباطبائي، وهو تلميذ الإمام الخميني لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، ويشغل الآن رئاسة مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) للبحوث والدراسات العليا، ويدرّس علم الفقه والأُصول.

وإذا كانت «اللواء» قدنشرت في عددها قبل السابق مقالاً حول «زواج المتعة» من وجهة نظر المذهب السني، وبقلم أحد الباحثين في الجامعة الأُردنية، فإنّها وهي تنشر في هذا العدد مقال الشيخ سبحاني، من وجهة نظر المذهب الشيعي، لترجو أن تفتح هذه الاجتهادات في وجه علمائنا ومفكرينا أبواب الحوار وفق أدب الاختلاف ومنهجيته الإسلامية التي نحترمها جميعاً، وأن تكون مقدمة لإزاحة حالة الاحتقان التي طرأت بفعل عوامل شتى على بحوثنا ومفكرينا وأورثت أُمّتنا ما تعيشه من انقسامات وتناقضات لم تكن في أي حال متعلقة بأُصول ديننا بقدر ما كانت اجتهادات في فروعه وهوامشه لا غير.

وإذا كان الشيخ سبحاني قد أكد في أكثر من مناسبة بأنّ المشتركات بين المذهبين السني والشيعي تفوق الاختلافات، وانّ الاختلاف في الفروع أمر طبيعي تحتاج إليه المجتمعات، فانّه يثير أيضاً وفي كل مناسبة وحوار، انّ المسلمين يختلفون ولن يختلفوا على النبي (عليه السلام) وسنته المشرّفة ولكنّهم اختلفوا أو سيختلفوا فيما روي عنه. فالاختلاف ـ إذن ـ ليس في النبي أو الكتاب ولكن فيما روي عنه (عليه السلام) وفيما فسره المفسّرون مما جاء في كتاب اللّه عزّوجلّ.

و «اللواء » إذ تشكر سماحة الشيخ سبحاني على تعقيبه الذي أبداه في حوارها معه حول مانشرته عن حكم زواج المتعة ليسعدها أن تنشر مقالته ورده، دون أن تكون مضطرة لتبنّي أي من وجهتي النظر السالفتين... فهي منبر للحوار وساحة للتقريب بين أتباع المذاهب، تلك رسالتها وستظل تسعى من أجل ذلك الهدف الحلم الذي يتطلع إليه كلّ المخلصين و الغيورين على دين اللّه ورسالته.

المحرر

ما هو زواج المتعة؟

زواج المتعة عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع ـ من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ـ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضاء والاتفاق، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها ـ إذ لم تكن يائسة ـ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوماً.

وولد المتعة ـ ذكراً كان أو أُنثى يلحق بالأب ولا يدعى إلاّ به، وله من الإرث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز كما يرث من الأُمّ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والا ُمّهات، وكذا العمومات الواردة في الاخوة والأخوات والأعمام والعمات.

وبالجملة: المتمتع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة.ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلاّ انّه لا توارث هنا ما بين الزوجين،ولا قسمة ولا نفقة لها. كما انّ له العزل عنها، وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية، لأنّ الماهية واحدة غير انّ أحدهما زوج مؤقّت والآخر دائم، وانّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرع هذا النكاح في صدر الإسلام ، ولا يشك أحد في أصل مشروعيته، وإنّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

ما هو الأصل في مشروعيتها؟

والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: ( وَحَلائِلُ أَبْنائكُمُ الَّذينَ مِنْ أَصلابِكُم وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُختَيْن إِلاّما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً * والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساء إِلاّما مَلَكَتْ أَيمانكُمْ كتاب اللّه عَلَيْكُمْ وأُحلَّ لَكُمْ ماوَراء ذلِكُمْ أَن تَبتَغُوا بِأَموالِكُمْ مُحصِنينَ غيرَ مُسافِحين فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيماتَراضَيْتُمْ بهِ مِنْ بَعْدِالْفَريضَة إِنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكِيماً ) ( [859]) .

والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه:

1. الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه:

إنّ هذه السورة، أي سورة النساء، تكفلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّتقسطُوا فِي اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساء مَثْنى وَثلاثَ وَرُباع وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحدَة... ) ( [860]) .

وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: ( وآتُوا النساءَ صَدْقاتهنَّ نِحْلةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شيء مِنْهُ نَفساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مريئاً ) ( [861]) .

وأمّا نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طولاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنات المؤمنات فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانكُمْ من فَتياتكُمُ المؤمنات وَاللّهُ أَعلم بايمانكُمْ بعضكم من بَعْض فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجورهنَّ بِالْمَعْرُوف مُحْصنات غَير مُسافِحات ولا مُتَّخذات أَخْدان... ) ( [862]).

فقوله سبحانه: ( فانكحوهنَّ بإِذن أَهلهنَّ ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير.

فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّنكاح المتعة، وهو الذي جاء في الآية السابقة، وعلى ضوء هذا حمل قوله سبحانه: ( فما استمتعتم ) على الزواج الدائم، وحمل قوله: ( فَآتوهنَّ أُجورهنّ ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه، فالناظر في السورة يرى انّ آياتها تكفلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقق ذلك إلاّ بحمل الآية على موضوع جديد وليس إلاّ نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

2. تعليق دفع الأُجرة على عقد الاستمتاع

إنّ لفظ الاستمتاع وإن كان في الأصل واقعاً على الانتفاع والالتذاذ، لكنّه صار بعرف الشرع مخصوصاً بهذا العقد المعين لا سيما إذا أُضيفت إلى النساء والمراد من قوله سبحانه: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) هو «متى عقدتم عليهنّ هذا العقد المسمى متعة فآتوهنّ أُجورهنّ» وذلك لأنّ المهر يجب بالعقد، لا بالجماع والاستمتاع.

ولا يصحّ تفسير قوله: ( فَما استَمْتَعْتُمْ بهِ مِنْهُنَّ ) بالعقد الدائم وحمله عليه وذلك لأنّه حينئذ إمّا أن يراد منه المعنى اللغوي أي الانتفاع والالتذاذ ومعنى ذلك انّه لا يجب شيء على الزوج إذا لم ينتفع من المرأة بشيء مع أنّ الفقهاء اتّفقوا على لزوم دفع نصف المهر في العقد الدائم إذا طلقها قبل الانتفاع.

أو يراد منه العقد الدائم ولازمه وجوب دفع المهر بكماله بمجرّد العقد، لأنّه قال: ( فَآتُوهُنَّ أُجُورهنّ ) أي مهورهنّ ولا خلاف في أنّه غير واجب، وإنّما يجب دفع الكل إذا دخل وإلاّ فذمة الزوج مشغولة بالكلّ على وجه التعليق. نعم للزوجة المنع من الدخول مالم تأخذ المهر كلّه، وأين هو من وجوب دفع المهر كلّه، إليها مطلقاً، امتنعت أم لا، أراد الدخول أم لم يرد.

نعم هذا شأن المتعة التي لم يشرع فيها الطلاق فإذا عقد، عقد متعة، لزمه المهر كلّه، دخل أم لم يدخل.

3. تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها

ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس، وأُبي بن كعب، وعبد اللّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.

وقد ذكر نزولها من المفسرين والمحدثين:

إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده: 4/436.

وأبو جعفر الطبري في تفسيره: 5/9.

وأبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن:2/178.

وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى:7/205.

ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف:1/360.

وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن:5/130.

وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب:3/200.

إلى غير ذلك من المحدثين والمفسرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم.

وليس لأحد أن يتهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يؤمنون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشك في ورودها في نكاح المتعة.

ونزيد الوضوح بياناً بقوله سبحانه: ( واحلّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ان تَبْتَغُوا بِأَموالكم محصنينَ غَيْر مُسافحين ) .

إنّ قوله سبحانه ( ان تبتغوا ) مفعول له لفعل مقدر، أي بيّن لكم ما يحل ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم، وأمّا مفعول قوله: ( تبتغوا ) فيعلم من القرينة وهو النساء أي طلبكم نكاح النساء، أي بين الحلال والحرام لغاية ابتغائكم نكاح النساء من طريق الحلال لا الحرام.

وقوله سبحانه: ( مُحصنين )   وهو من الإحصان بمعنى العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقوله سبحانه ( غير مسافحين ) هوجمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ الماء، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخرة في نكاح الإماء: ( وَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ بِالمَعْرُوف مُحصنات غَير مُسافِحات ) أي عفائف غير زانيات.

ومعنى الآية: انّ اللّه تبارك و تعالى شرع لكم نكاح ما وراء المحرمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفتكم ويصدكم عن الزنا، وهذا المناط موجود في جميع الأقسام، النكاح الدائم،والمؤقت والزواج بأمة الغير، المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.

هذا هو الذي يفهمه كلّ إنسان من ظواهر الآيات غير انّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهُنَّ أُجورهن ) لرواسب نفسية أو بيئيّة حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد امام النقاش نجملها بما يلي:

شبهات حول المتعة

الشبهة الأُولى: انّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأُسرة وإيجاد النسل، وهو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتب عليه إلاّ إرضاء القوة الشهوية وصب الماء وسفحه.

ويجاب عنها: بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتبة عليه، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائراً مدارها، لضرورة انّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلاً وإن حصل لهم قهراً، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.

ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة.

ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة، مخالفاً للحكمة، التي من أجلها شرع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا ؟ لا أظن انّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلاّإذا أفتى بغير دليل و لا برهان، وعندئذ يطرح السؤال الثاني: أي فرق حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى انّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني ؟

يقول صاحب المنار: انّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت، ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعاً وغشاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت.

أقول: نحن نفترض انّ الزوجين رضيا بالتوقيت لباً، حتى لا يكون هناك خداع وغش فهو صحيح بلا إشكال.

الشبهة الثانية:انّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرر في القرآن كقوله عزّ وجلّ في صفة المؤمنين: ( وَالّذينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حافِظُون* إِلاّعَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين* فَمَنِ ابْتَغى وَراء ذلِكَ فَأُولئكَ هُمُ العادون ) ( [863]) .

والمراد من الآية: انّ من ابتغى وراء ذلك، هم المتجاوزون ما أحله اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم. والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.

إلاّ انّه يرد عليها: انّها دعوة بلا دليل. فانّها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجية، فانّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فانّ الزوجية رابطة بين الزوجين تترتب عليها جملة من الأحكام وربما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.

الشبهة الثالثة: انّ المتمتع في النكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده مسافحة، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في دمن الزنا، فانّه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل:

كرة حذفت بصوالجة *** فتلقفها رجـل رجــل ويرد على هذه الشبهة: انّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقت يختص بالرجل دون المرأة، فانّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً، فكلّ واحد من الطرفين يحصن نفسه من هذا الطريق، وإلاّفلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الأُمور الثلاثة:

1. النكاح الدائم.

2. النكاح المؤقت بالشروط الماضية.

3. كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، والثالث أي كبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمله إلاّالأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء وهم قليلون، فلم يبق إلاّالطريق الثاني فيحصنان نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلابد أن يضع لكلّ مشكلة اجتماعية حلولاً شرعيةً، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه:

ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة المادية بجمالها تؤجج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة الذي يشكل الحل الأنجح لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترن في الأذان محذرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرع الحكيم له، حيث قال (عليه السلام) : «لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّشقي أو شقية».

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها فانّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك إذ يجب على المتمتع بها بعد إنهاء المدة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كلّ يوم لرجل؟ سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتفقت كلمة المحدثين والمفسرين على التشريع، وانّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.

الشبهة الرابعة: انّ الآية منسوخة بالسنّة، واختلفوا في زمن نسخها على أقوال شتى:

1. أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.

2. ما أحلت إلاّ في عمرة القضاء.

3. كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.

4. أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها.

وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما انّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جداً، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال: إنّ اللّه أنزل المتعة وما نسخها بآية أُخرى، وأمرنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمتعة وما نهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه يريد به عمر بن الخطاب.

إنّ الخليفة الثاني لم يدع النسخ وإنّما اسند التحريم إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من اللّه عزّ وجلّ أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.

بل نقل متكلم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال: أيّـها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهنّ، وأُحرمهنّ، وأُعاقب عليهنّ، متعة النساء، ومتعة الحج،وحي على خير العمل.

وقد روي عن ابن عباس ـ و هو من المصرّحين بحلية المتعة وإباحتها ـ في ردّه على من حاجه بنهي أبي بكر و عمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.

حتى أنّ ابن عمر لما سئل عنها أفتى بالإباحة فعارضوه بقول أبيه فقال لهم: أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحقّ أن يتبع أم أمر عمر؟

كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماًمن جانب الخليفة، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النص الواضح، ولم يزل جملة من الصحابة يعلنون رفضهم له وعدم إذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تحريمها دون حجة ولا دليل.

المنكرون للتحريم

ذكرنا انّ لفيفاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقرّوا به، منهم:

1. علي أمير المؤمنين، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال: «لولا انّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي» ( [864]).

2. عبد اللّه بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد اللّه بن عمر، قال ـ وقد سئل عن متعـة النساء ـ : واللّه ما كنا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) زانين ولا مسافحين، ثمّ قال: واللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون وأكثر» ( [865]).

3. عبد اللّه بن مسعود، أخرج البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، قال: كنّا نغزو مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لنا شيء ، فقلنا: الا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين، ثمّ قرأ علينا: ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا لا تُحَرِّموا طَيّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدين ) ( [866]). ( [867])

4. عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء ( [868]).

5. انّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيّام حكمه،بتحليل المتعة إلاّ أنّه توقف خوفاً من الفتنة وتفرق المسلمين. قال ابن خلكان، نقلاً عن محمد بن منصور: قال: كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكّرا غدا إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلاّفاسكتا إلى أن أدخل، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ:متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى عهد أبي بكر رضي اللّه عنه وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جُعَل حتى تنهى عما فعله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر رضي اللّه عنه؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: و ما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: و من أين قلت هذا؟ قال: من كتاب اللّه عزّوجلّ ، وحديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال اللّه تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون ) إلى قوله: ( وَالّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّعَلى أَزواجِهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِين* فَمَنِ ابْتَغْى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادون ) ( [869]) يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين ( [870]).

أقول: هل عزب عن ابن أكثم ـ و قد كان ممّن يكن العداء لآل البيت ـ انّ المتعة داخلة في قوله سبحانه : ( إِلاّعَلى أَزْواجِهِم ) و انّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافي ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما انّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأمّا الولد فيلحق قطعاً،و نفي اللحوق ناشئ امّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

وما أقبح كلامه حيث فسر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأُمة على تحليلها في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة الأوّل، أفحسب ابن أكثم انّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حلل الزنا ولو مدة قصيرة؟!

كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية.

فقد أخرج مسلم في صحيحه: عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر، قال: إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموا الحج والعمرة وأبوا نكاح هذه النساء، فلئن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّرجمته بالحجارة.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة، قال: قلت لجابر: إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة، وانّ ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إنّ القرآن هو القرآن، وانّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرسول، وانّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) احداهما متعة الحج والأُخرى متعة النساء.

وهذه المأثورات تعرب عن جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين:

الا ُولى: انّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت حلالاً في أيامه حتى نهى عنها ومنع.

و الثانية: انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنة، ومن المعلوم انّ اجتهاده ـ لو صحت تسميته بالاجتهاد ـ حجة على نفسه لا على غيره.

وفي الختام نقول:

إنّ الجهل بفقه الشيعة أدى بكثير من الكتاب إلى التقوّل على الشيعة، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن في صدد الحديث عنها، بجملة منكرة من الآراء والأحكام تدل على جهل مطبق أو خبث سريرة، ومن هذه الأقوال: إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وانّ المتمتع بها لا عدّة لها، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت، و من أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها.

وقد خفي الواقع على هؤلاء وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّبالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وانّ المتمتع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وانّ ولدها كولد الزوجة الدائمة من وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق المادية، وانّ عليها أن تعتد بعد إنهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار .

على أنّ الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، انّ الشيعة ورغم إدراكهم وإيمانهم بحلية زواج المتعة وعدم تحريمه ـ وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردّد ـ إلاّانّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلاّ في حدود ضيقة وخاصة، وليس كما يصوّره ويتصوّره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.

 


طباعة   البريد الإلكتروني