ما المقصود ب البداء و ما رأي الشيعة الامامية فيه؟

(وقت القراءة: 4 - 8 دقائق)

معنى البداء : " البداء " في اللغة هو الظهور و الإبانة بعد الخفاء . قال الراغب الاصفهاني في كتابه مفردات القران : " بدا الشيء بدوا و بداء : أي ظهر ظهورا بينا " 1 ، و من الواضح أن الظهور إنما يكون بعد الخفاء ، و لو قيل " بدا لزيد " فمعناه أنه علم بالشيء بعد الجهل به . و لقد جاء ذكر البداء بهذا المعنى في القران الكريم في مواضع منها :

  1. قال الله سبحانه و تعالى في القران الكريم : ﴿ ... وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ 2 .

  2. و قال سبحانه : ﴿ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ... ﴾ 3 .

  3. و قال تعالى أيضا : ﴿ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ 4 .

  4. و قال سبحانه أيضا : ﴿ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ﴾ 5 . و قد يطلق البداء و يراد منه تغيير الإرادة و تبدل العزم تبعا لتغير العلم ، كقوله تعالى : ﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين ﴾ 6 . و لقد اتفقت الشيعة الإمامية بأن البداء بمعنى الظهور بعد الخفاء ، و العلم بالشيء بعد الجهل به ، و بمعنى تغير الإرادة و العزم يستحيل إطلاقه على الله سبحانه و تعالى و لم يقل به أحد من الشيعة بتاتا ، لأنه كما هو واضح مستلزم لحدوث علمه و تغيره و تبدل إرادته و عدم إحاطته بما كان و ما هو كائن و ما سيكون ، و لا يظن بمسلم عارف بالكتاب و السنة و أحكام العقل أن يطلق البداء بهذا المعنى على الله سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا . و لقد جاء في الحديث عن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : " لا ، من قال هذا فأخزاه الله " . قلت : أ رأيت ما كان ، أ رأيت ما هو كائن إلى يوم القيامة ، أ ليس في علم الله ؟ قال : " بلى قبل أن يخلق الله الخلق " 7 . النصوص الدالة على بطلان البداء : ثم إن النصوص الشريفة من القران و الحديث تؤكد بطلان هذا الإطلاق كليا ، و فيما يلي نشير إلى بعض الايات و الأحاديث الدالة على استحالة إطلاق هذا المعنى على الله سبحانه و تعالى :

  5. قال الله تعالى : ﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ 8 .

  6. و قال سبحانه و تعالى أيضا : ﴿ ... وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ﴾ 9 .

  7. و قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) و هو يخاطب الله تعالى : " كل سر عندك علانية ، و كل غيب عندك شهادة " 10 .

  8. و قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : " كان الله و لا شيء غيره ، و لم يزل الله عالما بما كون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كونه " 11 ، إلى غيرها من النصوص الكثيرة . رأي الشيعة في البداء : لذا فقد اتفقت الشيعة الإمامية تبعا لنصوص القران و الحديث و البراهين العقلية على أنه سبحانه و تعالى عالم بالأشياء و الحوادث كلها غابرها و حاضرها و مستقبلها ، كليها و جزئيها ، لا يخفى عليه شيء في السماوات و الأرض . فالبداء بمعنى تغير الإرادة و تبدل العزم الناشئين عن تجدد علمه لم يقل به أحد من الشيعة بالنسبة إلى الله تعالى ، بل يرونه ضلالا و فسادا في العقيدة ، و كل ما ينسب إليهم إنما هو افتراء و بهتان أو نتيجة لسوء الفهم أو لعدم الاطلاع على رأي الشيعة بالنسبة إلى هذا الموضوع ، كما هو السبب في كثير من الأمور الأخرى . كلما هناك أن البداء قد يطلق و يراد منه تعليق أمر على اخر ، و لازم ذلك عدم حصول المشروط إذا لم يحصل الشرط . و بتعبير اخر : البداء يعني أن الله يغير مصير الإنسان إذا غير الإنسان سلوكه و مسيره في الحياة . و قد ورد في جملة من المرويات عن الأئمة أن من وصل رحمه مد الله في حياته و ضاعف له الرزق ، و معنى ذلك أن الله جعل لصلة الرحم هذه الاثار ، فإذا أوجد الإنسان هذا الأمر ترتب عليه أثره و إن لم يحصل الأثر المجعول لعدم حصول شرطه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة نشير إلى بعضها كالتالي :

  9. قال الله تعالى : ﴿ ... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ... ﴾ 12 .

  10. و قال الله سبحانه و تعالى أيضا : ﴿ فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ﴾ 13 .

  11. قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " إن الدعاء يرد القضاء ، و إن المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق " 14 .

  12. و قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : " صلة الرحم تزكي الأعمال ، و تنمي الأموال ، و تدفع البلوى ، و تيسر الحساب ، و تنسيء في الأجل " 15 . و هذه العقيدة رد على من يقول أن الإنسان مقدر عليه منذ نشأته في رحم أمه أن يكون شقيا جهنميا أو سعيدا و من أهل الجنة ، و إن هذا المقدر لا يمكن تغييره قط ، لا من قبل الإنسان و لا من قبل الله سبحانه و تعالى !! مجمل القول في البداء : و مجمل القول في البداء إن الله تعالى عالم بكل شيء ما كان و ما هو كائن و ما سيكون و إن علمه غير حادث و لا يتجدد ، لكنه سبحانه و تعالى علق أمورا على بعضها بحيث إذا أتى الإنسان بها تغيرت الأمور بالنسبة إليه و ظهرت له أي للإنسان بصورة لم يكن يتوقعها ، و على هذا الأساس تؤول الأحاديث التي تشير إلى البداء . يقول اية الله العظمى الخوئي ( قدس الله نفسه الزكية ) : " و البداء إنما يكون في القضاء الموقوف ، المعبر عنه بلوح المحو و الإثبات ، و الالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله . فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله و قدرته في حدوثه و بقائه ، و إن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا و أبدا . بل و في القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي و بين علم المخلوقين ، فعلم المخلوقين و إن كانوا أنبياء أو أوصياء لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى ، فان بعضا منهم و إن كان عالما بتعليم الله إياه بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فانه لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شيء أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم 16 . و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله و طلبه إجابة دعائه منه ، و كفاية مهماته ، و توفيقه للطاعة ، و ابعاده عن المعصية . فان إنكار البداء و الالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة دون استثناء يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فان ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، و لا حاجة إلى الدعاء و التوسل ، و إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا ، و لم ينفعه الدعاء و لا التضرع ، و إذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك . و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين ( عليهم السلام ) أنها تزيد في العمر أو في الرزق ، أو غير ذلك مما يطلبه العبد . و هذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) من الاهتمام بشأن البداء . فقد روى الصدوق في كتاب " التوحيد " بأسناده عن زرارة ، عن أحدهما 17 ، قال : " ما عبد الله عز و جل بشيء مثل البداء " 18 . و روى بأسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : " ما بعث الله عز و جل نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، و خلع الأنداد ، و إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء " 19 . و السر في هذا الاهتمام أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا " [20] . و بالتالي فإن للإعتقاد بالبداء أثر تربوي لأن الإنسان العاصي مدة من العمر إذا ظن أو اعتقد أن العصيان و الشقاء قدره المقدر عليه من جانب الله و أنه لا يمكنه تغييره من سيء إلى حسن ، أو من حسن إلى أحسن ، لتمادى في غيه و عصيانه و في تمرده و طغيانه ، و لم يحاول تحسين أعماله و تصرفاته ، على العكس من الشخص الذي اعتقد بأنه لو غير سلوكه غير الله له مصيره و أنه عز و جل قادر على ذلك ، فإن مثل هذا الإنسان سيحاول تغيير حالته و سلوكه ليحصل على مصير جيد .

    1. مفردات القران : 40 .
    2. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الاية : 47 ، الصفحة : 463 .
    3. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الاية : 28 ، الصفحة : 131 .
    4. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الاية : 48 ، الصفحة : 464 .
    5. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الاية : 22 ، الصفحة : 152 .
    6. القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الاية : 35 ، الصفحة : 239 .
    7. التوحيد : 334 .
    8. القران الكريم : سورة ال عمران ( 3 ) ، الاية : 5 ، الصفحة : 50 .
    9. القران الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الاية : 38 ، الصفحة : 260 .
    10. نهج البلاغة : خطبة / 105 .
    11. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 23 / 86 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
    12. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الاية : 11 ، الصفحة : 250 .
    13. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الاية : 88 ، الصفحة : 329 .
    14. بحار الأنوار : 90 / كتاب الذكر والدعاء ، الباب : 16 .
    15. الكافي : 2/470 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ، الملقب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
    16. هذا المعنى مستفاد من كلام الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " إن لله علمين ، علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ، و علم علمه ملائكته و رسله و أنبيائه ، و نحن نعلمه " ، يراجع : بصائر الدرجات : 109 ، لمحمد بن حسن بن فروخ الصفار ، المتوفى سنة : 290 هجرية بقم ، الطبعة الثانية ، مكتبة اية الله المرعشي النجفي ، قم / إيران .
    17. أي أحد الإمامين : الامام محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) ، أو الامام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) .
    18. التوحيد : 332 .
    19. الكافي : 1 / 147 .

طباعة   البريد الإلكتروني