التصوف والعرفان

(وقت القراءة: 4 - 7 دقائق)

التصوف والعرفان

السؤال :

ما هو تعريف التصوف ؟ وما هو تعريف العرفان عند العرفاء؟ وهل لكم تعريف خاص لهذا المصطلح ؟ وهل هناك فرق بين العرفان والتصوف ؟ وما هي الاضرار العقائدية الناتجة عن الالتحاق بمنهج العرفان ؟ وهل صحيح ان العرفاء يصلون الى مرحلة من الكشف يشاهدون الاشياء على حقيقتها ؟؟

رجاء شيخنا الفاضل الاجابة الشافية والوافية

الجواب:

1-لا يخفى أن التصوف بداياته ونشأته من إنشعابات فرق شيعية بالمعنى العام لا الخاص، وأن كثيرا من فرق الصوفية هي من الشخصيات التي انحرفت عن منهاج اهل البيت (ع)، فهم في الأساس يحملون منطلقات بعضها شيعية خلطت بإنحرافات منهم، وقد ذكر ذلك غير واحد من أعلام الإمامية، وهذا ليس إضفاء الصحة المطلقة  على منهاجهم، بقدر ما هو نظرة موضوعية في تاريخ نشأة التصوف.

2- أن جلّ الفرق الصوفية تعتقد بإمامة الائمة الاثني عشر (ع)‘، كائمة في الباطن وائمة في الآخرة، وأن الامام الحجة بن الحسن العسكري عج ولد في سامراء من ابيه (ع)، وهو غائب حتى يحين وقت الظهور، وقد كتب ذلك خمسون من أعلام المذاهب الأربعة ممن كان يعتنق التصوف في العقائد  في القرن الخامس والسادس، وبلغ عددهم مئتين وخمسين الى القرن الثاني عشر، وقد جمع ذلك في مقالة طبعت في كتاب متاهات في مدينة الضباب، وعلى ذلك فإدراج الفرق الصوفية في مذاهب العامة كما درج على ذلك في غير محله، بعد كون المعتقد هو الاصل في نسبة الفرق، وأما الفروع فهو ليس بدرجة الخطورة للمعتقد، فالفرق الصوفية هي من فرق التشيع بالمعنى الاعم عقائديا، بل قد تكون اولى من الزيدية والاسماعيلية والواقفة في الاندراج بإعتبار اعتقادها بالاثني عشر اماما، مجرد انتسابها في الفروع الى المذاهب الاربعة فلا ينفي انتسابها العقائدي وإلا فإن بعض الفرق الشيعية قد تلّون في الفروع بجملة من فقه العامة ايضا.

3- ان العرفان والعرفاء امتداد للتصوف والصوفية ، مع محاولة تصحيح لإنحرافات وللأخطاء التي ارتكبوها، ولبرهنة كثير مما التزم الصوفية بلغة الاستدلال والبرهان وتنظيم لغة الذوق، مع ملاحظة مدى نسبة التوفيق والصواب الذي استطاعوا القيام به أو وقعوا هم مرة اخرى فيه.

4-مع كل ما تقدم من ملاحظات على مسار ونتاج التصوف والعرفان، فهناك مؤشر اساسي هام ألا وهو أنه نتاج بشري لا يخرج عن الافق المحدود لقدرات البشر.

5- إن هناك لغتان لإدراك الإنسان

الأولى : التفكر العقلي في المعاني وفي العلوم المختلفة لغة للعقل النظري،

الثانية: الذوق الوجداني ووجدان الضمير لغة للقلب وللعقل العملي، وقد أكد الوحي على كلا اللغتين، فقال تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) فلم يصف تعالى ادراك الموت بكل نفس ناظرة للموت بالنظر الحسي ولا كل نفس متفكرة في الموت ولا كل نفس متخيلة الموت ولا كل نفس عالمة بالموت، بل حدده بالذوق للإدراك، وكذلك َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) كَفَى بِالْمَوْتِ طَامَّةً يَا جَبْرَئِيلُ فَقَالَ جَبْرَئِيلُ إِنَّ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَطَمُ‏ وَ أَطَمُّ مِنَ الْمَوْتِ. ووصف جبرئيل (ع)ما بعد الموت بالأطم وأطم اشتدادا نظير قوله تعالى فإذا جاءت الطامة الكبرى، فوصف عالم القيامة بالطامة الكبرى مقابل الكبير وأن كل ما تقدمه كان دونه في التذوق الاهوال والشدائد، فيشير الى أن العوالم اللاحقة قائم العلم فيها على الذوق والمشاهدة أكثر من الفكر والتفكر، ومثله قوله تعالى في وصف عالم القيامة (يوم تبلى السرائر) تكشف وتظهر الضمائر وقال الباقر (ع): من قتل لم يذق الموت، ثم قال: لا بد من أن يرجع حتى يذوق الموت‏.

وقال تعالى (لَنُذيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَليظ)،(وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبيرا) وقال أمیر المؤمنين (ع)«لَا يَذُوقُ الْمَرْءُ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَال‏  …) وغيرها من الموارد التي تعين الإدراك فيها بالذوق.

 6-ذوق المرارة فرقان وعلم، وهذا الذوق لمرارة الرياضة الروحية هي لغة ومنهاج للمعرفة كما قال تعالى ‏ (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)(واتقوا الله ويعلمكم الله) فذوق مرارة الرياضة لغة علم وفرقان لقراءة الوحي الإلهي في الكتاب والسنة.

7-وهذا الذوق للمرارة يأتي من جهاد النفس فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَنَّ النَّبِيَّ (ص) بَعَثَ بِسَرِيَّةٍ فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوُا الْجِهَادَ الْأَصْغَرَ وَبَقِيَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (ص) وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ قَالَ جِهَادُ النَّفْسِ، ثُمَّ قَالَ (ص) أَفْضَلُ الْجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ. وفی الفقه الرضوی: وَ نَرْوِي‏ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللَّهِ ص رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ مُنْصَرِفاً مِنْ بَعْثٍ كَانَ بَعَثَهُ فِيهِ وَ قَدِ انْصَرَفَ بِشَعْثِهِ وَ غُبَارِ سَفَرِهِ وَ سِلَاحُهُ عَلَيْهِ يُرِيدُ مَنْزِلَهُ فَقَالَ (ص) انْصَرَفَ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ فَقِيلَ لَهُ أَ وَ جِهَادٌ فَوْقَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ قَالَ نَعَمْ جِهَادُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ‏. فوصف (ص) رياضة النفس بالجهاد الأكبر مقابل الكبير فضلا عن المتوسط فضلا عن الصغير فضلا عن الأصغر، ففارق (ص) بين تعريض النفس للقتل بالسيف في سبيل الله تعالى أنه أصغر وبين رياضة وترويض النفس أنها مقام أرفع بدرجات وأعظم مكابدة وأشد مرارة من القتال في سوح المعارك مع العدو.

وقال أمیر المؤمنین(ع): (رَدْعُ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَى [هُوَ] الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ النَّافِعُ، رَدْعُ الْحِرْصِ مَنْعُ‏ الشَّرَهِ وَ الْمَطَامِعِ، رَدُّ الْغَضَبِ بِالْحِلْمِ ثَمَرَةُ الْعَقْل‏، رَدْعُ الشَّهْوَةِ وَ الْغَضَبِ جِهَادُ النُّبَلَاءِ).قال: وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَق)

8-فإذا كان للوحي لغتان يقرأ بها ألفاظه لغة العقل التفكر ولغة الذوق يتضح أن نتاج الفلاسفة والعرفاء والتصوف حيث انهما يستعملان هاتين اللغتين، كانت المراجعة لكتبهم على نحو المراجعة لكتب اللغة العربية، هي لتوضيح ألفاظ الوحي ومعانيه، وكما أن المراجعة للكتب اللغوية لا يعني تطابق المعنى الوحياني للمعنى اللغوي، إما لإن هناك حقيقة شرعية أو لعدم مداقة اللغويين في معاني الألفاظ واختلافاتهم في الدقة والتوسع والآراء أوتأثرهم المسبق بالمذاهب التي يعتنقونها، فالمراجعة لتلك الكتب لا تعني التصويب لما يقولون والتسليم المطلق له، بل كلماتهم مثيرة للإحتمال وللتنبه لمعان ثم المدار على التثبت من قرائن ألسنة ألفاظ الوحي في مصادره الكثيرة الواسعة.


طباعة   البريد الإلكتروني