كلمةٌ حول السرّ المستودَع

(وقت القراءة: 8 - 16 دقائق)

بسم الله الرحمن الرحيم

    والحمد لله ربِّ العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين ، أبد الآبدين .

    من جملة الأدعية والأذكار المباركة التي يكثر تداولها ودورانها على الألسنة ووصايا علماء الطائفة : الدعاء الشريف ( اللهمَّ صلِّ على فاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، والسرِّ المستودع فيها ) وسوف يكون هذا الدعاء الشريف محور هذه المقالة من خلال جهات ثلاث :

    1 / الجهة الأولى : سندُ الدعاء .

    لهذا الدعاء – بمقدار اطلاعي – صيغ أربع :

    أ – الصيغة الأولى : ( اللهم صلِّ على فاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، بعدد ما أحاط به علمك ) .

    ب – الصيغة الثانية : ( إلهي بحق فاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، والسرِّ المستودع فيها ) .

     وهاتان الصيغتان منقولتان عن آية الله المقدس الملا علي المعصومي الهمداني ( طاب ثراه ) ، نقلهما عنه تلميذه الحجة الشيخ أحمد الصابري الهمداني ( قده ) – مقرر أبحاث السيد الـﮕلبيـﮕاني ( قده ) في فقه الحج وولاية الفقيه – كما نقل عنه أيضاً : أنَّ تكرار الصيغة الأولى ( 530 ) مرة ، له أثر قوي وفاعل في قضاء الحاجات وتفريج الملمات [1].

    ج – الصيغة الثالثة : ( اللهمَّ إني أسألك بحق فاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، والسر المستودع فيها ، أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تفعل بي ما أنت أهله ، ولا تفعل بي ما أنا أهله ) .

     وهذه الصيغة منقولة عن سماحة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي ( قده ) ، وقد قال عنها في وصيتهِ لأكبر أولاده : ( وأوصيه بمداومة قراءة هذا الدعاء الشريف في قنوتات فرائضه ، فإنّي أرويه عن والدي العلامة ، وأستاذي جمال السالكين الشيخ محمد الحسين الشيرازي ، وهما يرويان عن شيخهما مصباح السالكين السيد مرتضى الرضوي الكشميري بطرقه إلى نجم الزاهدين السيد رضي الدين علي بن طاووس الحسني ، صاحب الإقبال ، بطرقه الموثوقة المتصلة إلى أصحاب موالينا الأئمة البررة ) [2].

     د – الصيغة الرابعة : ( اللهمَّ بفاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، والسرّ المستودع فيها ، بعدد ما أحاط به علمك ، أن تقضي حوائج حامل هذا الكتاب ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين ) .

     وهذه الصيغة منقولة عن سماحة آية الله المقدّس ، الشيخ محيي الدين المامقاني ، عن والده سماحة آية الله العظمى ، الشيخ عبد الله المامقاني ، عن مجموعة الشهيد الأول ( قُدّست أسرارهم ) ، وهو يرويها بأسانيده عن زياد القندي ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) [3].

     وهي مقتطعة من دعاء معروف بـ ( دعاء الكنز ) ، وقد وصفه الشهيد بقوله : ( عظيم الشأن ، جليل القدر ، رفيع المنزلة … ذكره جُلّ أصحابنا من أعاظم علماء الإمامية ممن يؤخذ بأقوالهم ، وذكروا له فوائد عظيمة ، منها : أنه نافع عند الشدائد والبليّات ، وتسهيل المشاكل والصعوبات ) .

     وقال عنه أيضاً : ( ما قرأ هذا الدعاء العظيم صاحب حاجة إلا قضى الله حاجته ، وذو مهمة إلا قضى الله مهمته ) ثمَّ ذكر له سبعين فائدة ، وقال ( قده ) : ( تنبغي قرائته وحمله ) .

     ونقلَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله : ” علمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، ما استعسر على أحدٍ أمرٌ إلا استيسر به ، وما قرأه صاحب حاجة إلا قضى الله تعالى حاجته ” .

     ونصّ الدعاء المذكور هو :

     بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهمّ إني أسألك بكلماتك ومعاقد عرشك ، وسكان سماواتك وأرضك ، وأنبيائك ورسلك ، أن تحفظ حامل هذا الكتاب ، بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن و م ح م د صلواتك عليهم أجمعين ، اللهمّ بفاطمة وأبيها ، وبعلها وبنيها ، والسر المستودع فيها ، بعدد ما أحاط به علمك ، أن تقضي حوائج حامل هذا الكتاب ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين ) .

     إذا عرفتَ ذلك ، فإنَّ جميع الصيغ الثلاث الأولى – كما لا يخفى على المتتبع – لم ترد بسند معتبر ، بل لم تُنسب إلى المعصوم ( عليه السلام ) في شيء من الكلمات[4] ، إلا أنَّ ذلك لا يضر باعتبارها ؛ وذلك لأنَّ الأدعية وكذا الزيارات لها حيثيتان :

    أ – الحيثية الأولى : حيثية قرائتها .

    ب – الحيثية الثانية : حيثية إسناد مضامينها إلى المعصوم ( عليه السلام ) .

    ومن الواضحات عند فقهاء الطائفة ” أعلى الله كلمتهم ” أنَّ الحيثية الأولى – حيثية    القراءة – مشروعة ، وإنْ لم يُعلم صدور النص عن المعصوم ( عليه السلام ) ، ما لم يُقصد بذلك الورود ، ومقتضى الأدلة هو جواز ذلك حتى في قنوت الصلاة ؛ لدلالة غير واحدٍ من النصوص المعتبرة على نفي التوقيف في أدعية القنوت .

     ومنها : صحيحة إسماعيل بن الفضل ، قال : سألتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) : عن القنوت وما يُقال فيه ؟ فقال ( عليه السلام ) : ” ما قضى اللهُ على لسانك ، ولا أعلم فيه شيئاً مؤقتاً ” [5] ، وهذه الصحيحة صريحة الدلالة على المطلوب ، ولا معارضَ لها .

    وأما الحيثيةُ الثانية : فالوثوقُ الخبري – على أقلِّ تقدير – وإن كان معتبراً فيها ، إلا أنه في مثل المقام فيما لو لم يكن النص منسوباً إلى المعصوم ( عليه السلام ) يكفينا ورود مضامين الدعاء أو الزيارة في أدعيةٍ أو زياراتٍ أخرى قد قام الدليل على اعتبارها ، والمقام من هذا القبيل ؛ نظراً لورود التعبير نفسه أو ما يقاربه في حديث الكساء المشهور : ” هم فاطمة وأبوها ، وبعلها وبنوها ” ، وهو ذو سند معتبر على الأصح[6] ، كما أنَّ مضمون هذا الدعاء – وهو التوسل بالصديقة الطاهرة ( عليها السلام ) – مما لا يرتاب في مشروعيته بل رجحانه مؤمن .

     وأما الصيغة الرابعة : فالقول باعتبارها سنداً يتوقف على افتراض تمامية ثلاث مقدمات :

     المقدمة الأولى : التسليم بوجودها في مجموعة الشهيد ( قده ) .

     ولا يخفى أنَّ أصل وجود مجموعة – بل مجاميع – للشهيد الأول ( قده ) مما لا كلام فيه ، كما صرّح به أصحاب الفن ، كصاحب المعالم ، والمحدّث النوري ، والسيد حسن الصدر ، والشيخ آغا بزرك الطهراني ( قدهم ) [7]، ولكنَّ شيئاً منها لم يُطبع لحدّ الآن ، إلا أنَّ نقل الثقة الثبت لشيء عنها يكفي للتعويل عليه [8].

     المقدمة الثانية : صحة أسانيد الشهيد ( قده ) لزياد القندي .

     وإثبات هذه المقدمة يتوقف على تمامية أمور ثلاثة :

     الأمر الأول : أنَّ للشهيد ( قده ) أسانيد متصلة ومعتبرة لمرويات الشيخين الجليلين الطوسي والصدوق ( طاب ثراهما ) ، وقد صرّح بذلك في إجازاته الشريفة [9].

     الأمر الثاني : أنَّ للشيخين الجليلين أسانيد متصلة ومعتبرة لكتاب زياد بن مروان القندي ، وقد تحدث الشيخ الطوسي ( قده ) عن سنده إليه ، فقال : ( زياد بن مروان القندي . له كتاب ، أخبرنا به الحسين بن عبيد الله ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن يعقوب بن يزيد ، عنه ) [10].

     وذكر الشيخ الصدوق ( قده ) أيضاً سنده إليه ، فقال : ( وما كان فيه عن زياد بن مروان القندي : فقد رويته عن أبي رضي الله عنه ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، ويعقوب بن يزيد ، عن زياد بن مروان القندي ) [11].

     الأمر الثالث : أنَّ دعاء الكنز موجود في كتاب ( زياد بن مروان القندي ) .

     ولا يخفى أنَّ الأمر الأول وإن كان تاماً ، غير أنَّ الأمرين الأخيرين لا يخلوان عن تأمل ، فإنَّ سند الشيخ الطوسي ( قده ) مبتلى بوقوع ( الحسين بن عبيد الله ) في سلسلته ، وفيه كلام يبتني على القول بوثاقة جميع مشائخ النجاشي وعدمه ، وأما سند الشيخ الصدوق ( قده ) فإنه – كما هو صريح كلامه – مقصور على مرويات القندي التي أوردها في الفقيه ، وليس دعاء الكنز منها ، كما لا يخفى .

     وأما الأمر الثالث : فدون إثباته خرط القتاد .

     المقدمة الثالثة : ثبوت وثاقة زياد القندي ، والصحيح تمامية هذه المقدمة ، فإنه وإن كان خبيثاً ومن أركان الواقفية ، إلا أنَّ الشيخ المفيد ( قده ) قد وثقه صريحاً في الإرشاد [12]، وهذا يكفي لتوثيقه ، وإن كان منحرفاً في اعتقاده .

     ومما عرضناه ظهرَ أنَّ الحكم باعتبار سند الصيغة الرابعة مما لا سبيل إليه ، نظراً لعدم تمامية المقدمة الثانية .

    2 / الجهة الثانية : مفرداتُ الدعاء .

    يشتمل الدعاء بمختلف صيغه المذكورة على عدةٍ من المفردات ، ولسنا بصدد بيانها جميعاً ، إذ الذي يعنينا منه مفردتان :

    أ – المفردة الأولى : مفردة ” السِّر ” .

    ب – المفردة الثانية : مفردة ” المستودع ” .

    أما المفردة الأولى : فالمعنى المتبادر منها إلى الذهن هو : الأمر المكتوم أو الخفي ، ولكن الذي ينبغي الالتفات إليه هو وجود معانٍ أخرى أيضاً لمفردة السر غير هذا المعنى المتبادر ، فإنَّ اللغويين – كما يظهر من مراجعة مادة ” سرر ” من لسان العرب – يذكرون لمفردة ” السر ” إلى جانب المعنى المذكور ، أربعة معانٍ ، وهي :

المعنى الأول : الأصل .

المعنى الثاني : السرور .

المعنى الثالث : الخالص .

المعنى الرابع : الأفضل من كل شيء .

    ولتكن هذه المعاني لمفردة ” السر ” على ذكرٍ منك ؛ لأننا سنحتاج إليها في الجهة الثالثة من جهات البحث .

    وأما المفردة الثانية : فتكاد أن تكون واضحة المعنى ، إلا أنَّ النقطة الجديرة بالالتفات فيها ، هي : أنَّ هذه المفردة مرتبطة بمفردة ” الوديعة ” ، ومن الواضح أنَّ هذه المفردة تعني الأشياء التي تجعل عند الغير لفترة معينة – تطول أو تقصر – لأجل حفظها ، ثم تُرد إلى صاحبها مرة أخرى ، أو إلى مَن يطلب إيصالها إليه [13].

    وليكن هذا أيضاً على ذكرٍ منك أيضاً ؛ لأنه مما يعين على فهم المقصود من السر المستودع ، كما سيوافيك في الجهة اللاحقة .

    3 / الجهة الثالثة : المعاني المحتملة للسر المستودع .

    قبل الشروع في بيان ما يرتبط بهذه الجهة ، لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ المعاني المحتملة لمفردة ” السر ” لا يمكن تطبيقها جميعاً على الصيغ الثلاث بنسق واحد ؛ وذلك لأنَّ إحداها مشتملة على لفظ ” الصلاة ” – وهي الصيغة الأولى – حيث جاء فيها : ” اللهمَّ صلِّ على فاطمة وأبيها ” ، ومن الواضح جداً أنَّ الصلاة لم يُعهد استعمالها بالنسبة لغير الإنسان ، وبما أن ” السر المستودع ” معطوف في الذكر على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها ، فيلزم أن يكون مشمولاً للصلاة أيضاً ، وهذا يعني لزوم كونه أحد أفراد الإنسان ، ولا سبيل لاحتمال غير ذلك من المعاني [14].

    وهذا بخلاف الصيغة المجردة عن الصلاة ، فإنَّ دائرة معاني ” السر ” فيها ستكون أوسع وأشمل ، ولن ينحصر الأمر فيها بخصوص المعنى السابق .

    وعلى ضوء هذه النكتة ، فإنه من اللازم منهجياً في هذه الجهة توزيع البحث إلى قسمين :

    أ – القسم الأول : المعاني المحتملة لمفردة ” السر ” على ضوء صيغة الصلاة .

    والمعاني المحتملة على ضوء هذه الصيغة معنيان :

    1 – المعنى الأول : السِّر هو الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) . ووجهُ التعبير عنه بالسر – بمعنى الشيء الخفي – يكاد أن يكون واضحاً ، فإنَّ غيبته الشريفة وخفاءه عن الأنظار – شخصاً أو عنواناً – يجعله من أجلى مصاديق السر بحسب معناه المذكور .

    إلا أنَّ هذا الوجه لا يخلو عن بعد ، ضرورة أنه ( عج ) وإن كان سراً بحسب اللحاظ المذكور ، إلا أنه بلحاظ ما يرتبط به من الخصائص والشؤون التي أوضحها الكم الهائل من الروايات الشريفة لا يصدق عليه عنوان ” السر ” إلا بشيء من التكلف ، مع أن الظاهر من عنوان ” السر ” كونه ممحضاً في السرية ، وإلا فإنَّ مجرد كون المعصوم ( عليه السلام ) سراً باعتبار من الاعتبارات يصدق على جميع المعصومين ( عليهم السلام ) ، لا خصوص الإمام المهدي ( عج ) .

    هذا مضافاً إلى أنَّ تطبيق عنوان ” المستودع ” على الإمام ( عج ) وإن كان يمكن تصويره بلحاظ بعض الاعتبارات ، إلا أنه لا يخضع لنكتة فنية تختص به ( عج ) ، بل تشمله وتشمل غيره من المعصومين ( عليهم السلام ) .

    2 – المعنى الثاني : السِّر هو المحسن الشهيد ( عليه السلام ) . والوجه في التعبير عنه بالسر أشد وضوحاً من الوجه في سابقه ، إذ أنه ( ع ) مجهول الخصائص والشؤون والكمالات ، بل لم يسمح الظالمون حتى بإطلالة نوره المبارك على أنحاء هذا الوجود ، فغيبوه شهيداً وهو في أطهر بطن على وجه العالم .

    ويُقرّب هذا الاحتمال تعبير الدعاء عنه بـ ” المستودع ” بعد تعبيره عنه بـ” السر ” ، إذ من المحتمل جداً كون هذا التعبير مقتنصاً من قوله تبارك وتعالى : ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) [15] فإنَّ الظاهر من هذه الآية – كما أفاد سيد الميزان ( قده ) [16] – بقرينة كونها في مقام بيان أساس السلالة البشرية : أنها بصدد تقسيم السلالة إلى قسمين ، فقسم منها قد تلبس بالولادة فاستقر في الأرض ، كما أشار إلى ذلك قوله تبارك وتعالى : ( ولكم في الأرض مستقر )[17] ، وقسم منها لم يستقر ، وهو ” المستودع ” في الأصلاب والأرحام .

    فالمحسن الشهيد ( عليه السلام ) سر من أسرار الله التي لم تنكشف ، وقد استودعه خالقه تبارك وتعالى عند الصديقة الطاهرة الزهراء ( عليها السلام ) ، ثم استرجعه منها شهيداً على أيدي قتلتها الظالمين ، وهو بعدُ لم يستقر في الأرض .

    ب – القسم الثاني : المعاني المحتملة للسر على ضوء الصيغة المجردة .

    والمعاني المحتملة – على ضوء هذه الصيغة ، إلى جانب الاحتمالين المتقدمين ، فإنهما واردان هنا أيضاً – معنيان :

    1 – المعنى الأول : السر بمعنى الأفضل من كل شيء . بتقريب : أن الصديقة الطاهرة الزهراء ( عليها السلام ) هي مستودع أفضل وأعظم وأشرف الكمالات الإلهية المفاضة على العباد ، بمقتضى كونها بضعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومظهر خصائصه ومجلى كمالاته ، فالعصمة وإن كانت عند غيرها من الأنبياء والرسل والأوصياء ( عليهم السلام ) إلا أنَّ عصمتها هي الأفضل ، والعلم الإلهي وإن كان عند غيرها أيضاً إلا أن علمها هو الأعظم ، والولاية التكوينية وإن كانت موجودة عند غيرها إلا أن ولايتها هي الأكمل ، وهكذا ، وليس يستثنى من هؤلاء ( عليهم السلام ) أحد إلا من اشتركوا معها في أشدية كمال الخصائص ، وهم أبوها وبعلها وبنوها ( عليهم السلام ) .

    وعليه : فلا محيص للإنسان الداعي – سيما بعد كونه في مقام القسم والتوسل – من التضرع إلى الله تعالى بما هو الأقرب إليه ، وليس بعد المعصومين ( عليهم السلام ) إلا صفاته المقدسة المستودعة – بحسب أعلى درجاتها وأفضل مراتبها – عند فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها ( عليهم السلام ) .

    2 – المعنى الثاني : السر بمعنى الأمر الخفي . فيكون معنى الدعاء : ” اللهمَّ إني أسألك بحق ما خفيَ من الشؤون والخصائص المستودعة عند الزهراء ” ويقرِّب هذا المعنى نفس التعبير بالسر ، فإنَّ المتبادر منه – كما أشرنا سابقاً – هو الأمر الخفي ، ولا ريب في حجية هذا النحو من التبادر ؛ لكونه ناشئاً عن كثرة الاستعمال ، كما هو مقتضى القاعدة المحررة في علم الأصول .

    ونتيجة ذلك : فإنَّ ” السر المستودع ” يبقى سراً لا يمكن استكناه حقيقته ، والوصول إلى واقعه ، وجميع ما ذُكر أو سيذكر من المحاولات لبيان المعنى المقصود منه سيظل احتمالاً قابلاً للمطابقة مع الواقع وقابلاً للمخالفة .

    والخلاصة : فإننا إذا بنينا على الصياغة الأولى للدعاء ، فإنَّ المعنى الأقرب للسر المستودع هو المحسن الشهيد ( عليه السلام ) ، وإن بنينا على الصياغة الثانية ، فإن المعنى الأقرب للسر المستودع هو الأمر المكتوم الذي لا سبيل إلى العلم به ، والله العالم بحقائق الأمور .

والحمد لله رب العالمين

ضياء السيد عدنان الخباز

صباح الثلاثاء 11 / 2 / 1429 هـ

الكويت / المنصورية / حسينية آل ياسين[18]

[1] فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى : 1 / 252 .

[2] قبسات من حياة السيد المرعشي ( قده ) : 124 ، وقد جاء نص الوصية المذكورة في آخر الكتاب المذكور بخط السيد المرعشي ( قده ) نفسه .

[3] نقلَ لي ذلك أحد الفضلاء القطيفيين ( دام توفيقه ) ، وأفاد أنَّ المجموعة التي نُقلت عنها الصياغة المذكورة كانت موجودة في مكتبة الشيخ المامقاني ( قده ) التي كانت في النجف الأشرف .

[4] وقد توهم بعضهم أنَّ الصيغة الثالثة تنتهي إلى المعصومين ( عليهم السلام ) ، ولكن لم يظهر من كلام السيد المرعشي ( قده ) المتقدم أكثر من انتهائها إلى أصحابهم ( رضوان الله عليهم ) ، ولعلَّ هذا يقرّب تلقيهم لها عنهم ( عليهم السلام ) ، إلا أنه مما لا يمكن القطع به .

     ومما يجدر ذكره : أنني في إحدى زياراتي لسماحة العلامة السيد عباس الكاشاني ( قده ) سألته – وهو خرّيت الفن – عمّا لو كان قد اطلعَ على نسبة الدعاء لأحد المعصومين ( عليهم السلام ) ، فأجاب بالإيجاب ، بل أفادَ أنَّ له سنداً أيضاً ، وأحالني على كتابهِ الشهير : ( مصابيح الجنان ) ، ولكنني رغم مزيد الفحص فيه لم أجد أثراً للدعاء المذكور ، فضلاً عن سنده ، ولعلّه ( قده ) أراد كتاباً آخر ، ولكن سبقَ لسانه إلى أشهر كتبه .

[5] وسائل الشيعة : 6 / 277 ، الباب : 7 من أبواب القنوت ، الحديث : 1 .

[6] إذ ليس يوجد في سند الحديث المبارك – الذي ذكره صاحب العوالم ( قدس سره ) – مَن يُغمز فيه إلا ( القاسم بن يحيى ) ، إلا أنَّ توثيقه ببعض الوجوه العامة ليس بمتعذر .

[7] لاحظ مقدمة ( غاية المراد في شرح نكت الإرشاد ) : 1 / 168 .

[8] مما يجدر التنويه عليه : أنني طلبت من أحد أصدقائي من خبراء المخطوطات – وهو فضيلة الشيخ إسماعيل الگليداري البحراني ( دامت توفيقاته ) – أن يبحث لي ضمن مجموعات الشهيد ( قده ) التي بحوزته عن دعاء الكنز ، فلم يجد له أثراً ، ولعلّ هنالك ثمة اختلاف وتفاوت بين نسخ المجموعات بالزيادة والنقيصة ، فينبغي المزيد من التتبع حول هذه الجهة .

[9] بحار الأنوار : 104 / 189 و 190 و 197 و 198 .

[10] الفهرست : 131 .

[11] من لا يحضره الفقيه : 4 / 466 .

[12] الإرشاد : 2 / 248 .

[13] ناقشَ فيما ذكرناه بعض الفضلاء : بلزوم التفريق بين الوديعة عند الشخص والوديعة في الشيء ، فالأولى ظاهرة في الوديعة المردودة دون الثانية ؛ ولذا يقال : أودعت في كتابي كذا ، أو أودعَ في كتابه كذا ، ولا يُوجد أيُّ استرداد في مورديهما ، ووردَ في دعاء الندبة : ” وأودعه الله علم ما كان وما يكون ” مع وضوح أنَّ العلم الذي أفاضه الله تعالى على ذوات المعصومين ( عليهم السلام ) لم يوضع فيهم ليسترجع ، بل حتى الوديعة عند الشخص لا تعني الاسترجاع دائماً ، كما في قول القائل : ( أستودعك الله ) فإنه لا يريد استرجاعه بل حفظه عنده تعالى .

     ويُلاحظ عليه : أننا ذكرنا أعلاه أنَّ مفردة الوديعة تعني الأشياء التي تجعل عند الغير لفترة معينة لأجل حفظها ، ثم تُرد إلى صاحبها مرة أخرى ، أو إلى مَن يأمر بإيصالها له .

     وبهذا يتضح ما في كلامه ( دامَ توفيقه ) ، فإنَّ الوديعة في جميع الأمثلة المذكورة مستردة ، غاية الأمر أنها تُسترد لغير مودعها ، فإنَّ علمهم ( عليهم السلام ) المودع عندهم يسترد الله تعالى ما شاءَه منه لتعليم الآخرين ، كما أنَّ ما يتمُّ إيداعه في الكتب يتمّ استرداده لكلّ مستفيد منها .

     وهكذا يُقال بالنسبة لعبارة ( أستودعك الله ) فإنَّ القائل يطلب من الله تعالى أن يحفظ الشخص الذي يفارقه حتى يتحقق استرداده له باللقاء به مجدداً ، أو باعتبارٍ آخر .

     وبالجملة ، فإنَّ جميع موارد استعمال مفردة ( ودع ) وما لها من المشتقات مشربة بمعنى الحفظ والاسترداد ، ولا يحتاج التوصل إلى ذلك لمزيدٍ من التأمل .

[14] ناقشَ فيما ذكرناه بعض الفضلاء ( دام توفيقه ) بأمرين :

     الأول : إنَّ مرجعية العرف إنما هي في تحديد المفاهيم ، لا في الاستعمال .

     الثاني : إنَّ مفهوم ( الصلاة ) قد حدده المعصومون ( عليهم السلام ) بأنه الثناء ، والثناء كما يصح على الإنسان يصح على الصفات .

     ويُلاحظ على الأول : أنَّ العرف كما أنه المرجع لتحديد المفاهيم ، كذلك يُرجع إليه في معرفة موارد الاستعمال ، إما لأجل التوصل إلى تحديد المفهوم ، وإما لأجل توسعة المفهوم أو تضييقه طبقاً لمناسبات الحكم والموضوع العرفية ، ومن هنا تجدهم يعبرون أحياناً عن بعض الاستعمالات بأنه ( استعمال عرفي ) أو ( استعمال غير عرفي ) ، فليس يتردد أحد مثلاً في انطباق عنوان ( غير مأكول اللحم ) – بما له من المفهوم – على الإنسان ، ولكن لأنَّ العرف لا يستأنس استعماله فيه ؛ لذلك قيل بانصرافه عن الإنسان ، وإن كان مفهوماً منطبقاً عليه .

     ويُلاحظ على الثاني : أنَّ مفهوم الصلاة لم يحدده المعصومون ( عليه السلام ) بخصوص الثناء ، بل فسرته بعض النصوص الشريفة بالرحمة ، ولا يخفى ما في حمل لفظ الصلاة – بمعنى الرحمة – على مثل الصفات من الكلفة .

[15] سورة الأنعام ، الآية : 98 .

[16] الميزان في تفسير القرآن : 7 / 288 .

[17] سورة البقرة ، الآية : 36 .

[18] وتمت إضافة بعض الإضافات لهذه المقالة في يوم الأربعاء الموافق لتأريخ 4 / 6 / 1436 هـ .


طباعة   البريد الإلكتروني