الشريف المرتضى

(وقت القراءة: 5 - 9 دقائق)

366px علی 21

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد خاتم المرسلين وعلى الأئمة المعصومين، وبارك على آله ومن تبعهم على دينه إلى يوم الدين.

وأما بعد..

فإن الله أنعم على ذرية آدم بالبصيرة يهتدون بها إلى الحق لمن أراده، وهيأ لهم أسباب الهداية بعد كل ميل عنها، فبعث فيهم رسله أنوارا تسطع في سمائهم كلما حلت بهم ظلمة، وبث بينهم رسالاته سلسبيلا دائما كلما أصابهم قحط من العلم ينهلون منها ما شاؤوا بركة ورحمة ومغفرة منه إنه هو الغفور الرحيم. ثم ختم ذلك بخاتم رسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبكتابه الكريم ليتم به نعمته على خلقه، وجعل فيهم ذرية محمد آل بيته المعصومين مصابيح الهدى ومفاتيح الخلاص يهدون بدين جدهم من ضل، ويقيلون بسنته من عثر أو زل، واختار بفضل حكمته ورعايته ممن سار على دربهم من العلماء والمؤمنين نخبة صالحة تتواصل باستمرار من السلف إلى الخلف، تنفض غبار التآمر عن هذا الدين الحنيف ليظل مصانا مشرقا إلى يوم القيامة بإذنه تعالى إنه هو السميع المجيب.

من هنا كانت الحاجة ملحة أن نلجأ دائما إلى المعين الذي لا ينضب

لنرفد منه سواقينا الجافة، أعني إلى صدر الاسلام وعصور نهضته، وما نحياه اليوم ومنذ مئات السنين من ظلمات دامسة أريد لديننا فيها الهلاك والدثور.

فبالرغم من الاعتداءات السافرة على تراثنا وخزائن علومنا وتعمد إحراقها وإغراقها من جحافل الغزاة وتتار الماضي والحاضر، إلا أنه يظل سناها وهاجا يبهر الأبصار والألباب.

ويحضرني هنا هذا البيت الذي يقول:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

 

فإنكار البعض لتاريخنا لا يعني طمسه وزواله.

فكلما توغلنا في الماضي استوقفتنا أطواد شامخة لعلماء ومفكرين أجلاء حفروا في الذاكرة أسطرا لا يمكن أن تمحى. فكانت معلقات ذهبية تباهت بها أجيالنا وتوارثتها عبر العصور حتى يومنا هذا.

ولو أردنا أن نسترسل في تعداد كنوزنا تلك لما وسعنا ذلك، لما تحويه من قلائد نفيسة. وحسبنا أن نختار منها علما عالما أديبا شاعرا يغني بمفرده فقر مكتبات عصرنا الحاضر، ويزين صدرها فيكون بمثابة واسطة العقد لها، عنيت به علم الهدى ذي المجدين الشريف المرتضى علي بن الحسين.

لماذا؟ وكيف؟ نترك للقلم والقرطاس مجال التعريف به.

اسمه ونسبه: -

هو السيد الشريف أبو القاسم علي بن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لقب بالمرتضى ذي المجدين

علم الهدى. كان أوحد أهل زمانه علما وكلاما وحديثا وشعرا فكانت بذلك مثالا للثقافة الكاملة.

أما والده فيكنى بأبي أحمد ويلقب ب " الطاهر، الأجل، ذو المناقب، الأوحد ". كان نقيب الطالبيين وعالمهم وزعيمهم، جمع إلى رياسة الدين زعامة الدنيا لعلو همته وسماحة نفسه وعظيم هيبته وجليل بركته. وكان قوي المنة شديد العصبة يتلاعب بالدول، ويتجرأ على الأمور.

وأما والدته فهي فاطمة بنت الحسن الملقب بالناصر الصغير نقيب العلويين في بغداد وعالمهم وزاهدهم وشاعرهم.

وقد ورد في كتاب بحر العلوم حول نسب الشريف المرتضى ما يلي:

" أما النسب فهو أقصر الشرفاء نسبا، وأعلاهم حسبا، وأكرمهم أما وأبا، وبينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام عشر وسائط من جهة الأم والأب معا، وبينه وبين الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام خمسة آباء كرام ".

ولادته ووفاته:

ولد السيف الشريف المرتضى في رجب سنة 355 هـ - 966 م في بغداد، وتوفي بها في الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة 436 هـ - 1044 م، وسنه يومئذ ثمانون سنة وثمانية أشهر، ودفن في داره أولا ثم نقل إلى جوار جده الحسين عليه السلام، حيث دفن في مشهده المقدس مع أبيه وأخيه وقبورهم ظاهرة مشهورة (1).

سماته الخلقية وصفاته الخلقية:

كان الشريف المرتضى رحمه الله ربع القامة نحيف الجسم أبيض اللون

____________

(1) جاء ذلك في ترجمة في كتاب رسائل الشريف المرتضى المجموعة الأولى - مطبعة سيد الشهداء - قم 1405 هـ في الصفحة 39.

حسن الصورة. اشتهر بالبذل والسخاء والاغضاء عن الحساد والأعداء، بالرغم مما وصمه به هؤلاء من البخل وقلة الإنفاق. وخير دليل على سخائه وبذله ما تعهد به مدرسته العلمية وتلامذته من إنفاق وبذل.

وله في ذم الحرص والطمع قصائد ومقطوعات في ديوانه تذكر منها هذه الأبيات:

لا در در الحرص والطمع

ومذلة تأتيك من نجع

وإذا انتفعت بما ذللت به

فلأنت حقا غير منتفع

ومصارع الأحياء كلهم

في الدهر بين الري والشبع

وإذا علمت بفرقتي جدتي

فعلام فيما فاتني جزعي

و

 

 

 

 

كان رحمه الله ميالا إلى الزهد في الدنيا راغبا عنها ذاما لها، داعيا إلى الاعتبار فيها، سالكا سبيل أجداده الكرام، والصحابة العظام، من جعلها مجازا للآخرة، ومزادا لدار القرار.

ويختصر ذلك بهذه الأبيات من ديوانه:

لا تقربن عضيهة

إن العضائه مخزيات

واجعل صلاحك سرمدا

فالباقيات الصالحات

في هذه الدنيا ومن

فيها لنا أبدا عظات

إما صروف مقبلا

ت أو صروف مدبرات

والذل موت للفتى

والعز في الدنيا حياة

والذخر في الدارين إما

طاعة أو مأثرات

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إلا أنه مع زهده في الدنيا وتقشفه فيها كان ذا مقام سياسي في الدولة خطير، وذلك بفضل ما أوتي من أصالة الرأي ووقارة العلم والمال، مع عز العشيرة وكثرة الرجال.

وكان رحمه الله مشغوفا بالعلم منصرفا إليه بين دراسة وتدريس، محبا

لتلامذته وملازميه. وقد اتخذ من داره الواسعة مدرسة عظيمة تضم طلاب الفقه والكلام والتفسير واللغة والشعر والعلوم كالفلك والحساب وغيره، حتى سميت دار العلم، وكان له فيها مجلس للمناظرات.

والملفت للنظر حسب ما روى المحققون أن مدرسته كانت جامعة إنسانية، اجتمع فيها كثير من طلاب العلم من مختلف المذاهب والملل دون تفريق بين ملة وملة ومذهب ومذهب.

وهذا يدل على رحابة صدره وسعة أفقه وعمق نظرته الانسانية وترفعه عن العصبية والطائفية والمذهبية التي كان يعتبرها نابعة من الجهل وضيق الأفق.

كما أنه - قدس الله سره - شغف بجمع الكتب وولع باقتنائها، ويكفي ما ذكر أن خزانته ضمت ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومقروءاته على ما حصره وأحصاه صديقه وتلميذه أبو القاسم التنوخي.

عصره ومعاصروه وأصحابه:

عاش الشريف المرتضى في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين وهي فترة انكماش الدولة العباسية وضعفها ووهنها أيام سيطرة أمراء الإقليم على حكم أقاليمهم وتولي بني بويه شؤون السلطة في بغداد.

وكان له بفضل ما أوتي من شرف العلم والنسب وما تحلى به من غزارة العلم وقوة الشخصية وعزة النفس ووفارة المال وجميل الخصال وسمو الرتبة وجليل المكانة أصدقاء كثر جلهم من أهل العلم والأدب والفضل والشرف، ويكفي أن نذكر بعض أساتذته وتلامذته ممن كانت لهم المراكز والرتب العلمية والدينية والدنيوية، إضافة إلى صلاته الوثيقة بالخلفاء والملوك والوزراء والأمراء والقادة، لنتبين المكانة العالية التي كان يتمتع بها رحمه الله. ونذكر على سبيل المثال:

من أساتذته ومشايخه:

- الشيخ المفيد العالم المتكلم المشهور، اشتهر بكثرة علمه. وهو محمد بن محمد بن عبد السلام العكبري البغدادي المكنى بأبي عبد الله وابن المعلم.

- ابن نباتة: الشاعر المشهور وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة السعدي.

- المرزباني: وهو أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المعروف بالمرزباني. كان راوية للأخبار والآداب والشعر.

- ابن جنيقا: وهو أبو القاسم بن عبد الله بن عثمان بن يحيى الدقاق المعروف بابن جنيقا. كان قاضيا محدثا ثقة مأمونا حسن الخلق.

- أبو عبد الله القمي: وهو الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه، أخو الشيخ الصدوق، كان جليل القدر عظيم الشأن في الحديث. وقد وثقه أصحاب التراجم، وأخباره مشهورة في كتبهم.

من تلامذته:

- الطوسي: وهو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الفقيه الأصولي والمحدث الشهير.

- أبو يعلى الديلمي " سالار ": وهو محمد بن حمزة أو ابن عبد العزيز الطبرستاني. وكان ينوب عن أستاذه المرتضى في التدريس، وهو فقيه متكلم.

- أبو الصلاح الحلبي: وهو الشيخ تقي الدين بن النجم الحلبي خليفة المرتضى في البلاد الحلبية ومن كبار علماء الإمامية.

 

- ابن البراج: وهو أبو القاسم القاضي السعيد عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج.

- أبو الفتح الكراجكي: وهو الشيخ الإمام العلامة أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، عالم، فاضل، متكلم، فقيه، محدث، ثقة جليل القدر.

- عماد الدين ذو الفقار: وهو السيد الإمام عماد الدين ذو الفقار محمد بن معبد بن الحسن بن أبي جعفر الملقب بحميدان، أمير اليمامة بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن يوسف بن الأخيضر بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. كان فقيها عالما متكلما ورعا.

- الدوريستي: هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباسي الرازي الدوريستي. من أكابر علماء الإمامية اشتهر في جميع الفنون.

من الخلفاء:

الطائع لأمر الله، والقادر، وابنه القائم بأمر الله وأبو العباس محمد بن القائم بأمر الله.

من الملوك:

بهاء الدولة البويهي وأبناؤه شرف الدولة، وسلطان الدولة، وركن الدين جلال الدولة، وأبو كاليجار المرزبان.

من الوزراء:

أبو غالب محمد بن خلف، وأبو علي الرخجي: وأبو علي الحسن بن حمد، وأبو سعيد بن عبد الرحيم، وأبو الفتح، وأبو الفرج محمد بن

جعفر بن فسانجس، وأبو طالب محمد بن أيوب بن سليمان البغدادي، وأبو منصور بهرام بن مافنة.

من النقباء:

والده الشريف أبو أحمد الموسوي، وخاله الشريف أحمد بن الحسن الناصر، وأخوه الشريف أبو الحسن محمد الرضي، والشريف أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأبو الحسن الزينبي، وأبو الحسين بن الشبيه العلوي.

من الأمراء:

أبو الغنائم محمد بن مزيد، وأبو علي أستاذ هرمز، وأبو منصور بويه بن بهاء الدولة، وأبو شجاع بكران بن بلفوارس، وعنبر الملكي، وعقيل غريب بن مقفى.

من العلماء والقضاة والأدباء:

الشيخ أبو الحسن عبد الواحد بن عبد العزيز الشاهد، وسعد الأئمة أبو القاسم وابنه معتمد الحضرة أبو محمد، وأبو الحسين لبن الحاجب، وأبو إسحاق الصابي، وابن شجاع الصوفي، وأبو الحسين الأقساسي العلوي، وأبو الحسين البتي أحمد بن علي الكاتب، والقاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو الحسن السمسمي، والشاعر أبو بكر محمد بن عمر العنبري.

قيل في الشريف المرتضى الكثير في تعداد مزاياه وفضائله ومراتبه، ومما قيل فيه:

- في مرآة الجنان: " إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فزع علماؤنا، وأخذ عنه عظماؤنا، صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها،

ممن سارت أخباره وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين مما يشهد أنه فرع تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل ".

- في جامع الأصول قال ابن الأثير:

" إن مروج المائة الرابعة بقول فقهاء الشافعية هو أبو حامد أحمد بن طاهر الأسفرايني، وبقول علماء الحنفية أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي، وباعتقاد المالكية أبو محمد عبد الوهاب بن نصر، وبرواية الحنبلية هو أبو عبد الله الحسين ابن علي بن حامد، وبرواية علماء الإمامية هو الشريف المرتضى الموسوي ".

- في تتمة يتيمة الدهر قال الثعالبي:

" قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم، وله شعر في نهاية الحسن ".

تصانيفه:

وقد بلغت تصانيفه ورسائله ومؤلفاته مئة وسبعة عشر مصنفا كما ورد في كتابه (رسائل الشريف المرتضى - المجموعة الأولى) المطبوعة في قم سنة 1405 هـ. لاحظ الصفحات من 33 إلى 39.

وهكذا نجد الشريف المرتضى طيب الله ثراه، قد مخر عباب هذا البحر الزاخر المتلاطم الأمواج الدينية منها والأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية، فكان كالمارد تحدى العواصف والأعاصير ممتشقا ذهنا وقادا وقلبا كبيرا، وعلما غزيزا، وعزيمة لا تلين.

فكان بحق علما في حياته، وقدوة بعد مماته.


طباعة   البريد الإلكتروني