نشأة التشيع

(وقت القراءة: 20 - 39 دقائق)
إذاً فالغرض يحصل في مقصدين : [ المقصد ] الأول : في أنَّ التشيُّع من أين نشأ ؟ ومتى تكوَّن ؟ وَمَنْ هو غارس بذرته الأولى ، وواضع حجره الأوّل ، وكيف أفرعت دوحته حتى سما واستطال ، وأزهر وأثمر ، واستدام واستمر حتى تديَّنت به جملة من أعاظم ملوك الاسلام ، بل وجملة من خلفاء بني العبّاس : كالمأمون ، والناصر لدين الله ، وكبار وزراء الدولة العبّاسية وغيرها . فنقول وبالله المستعان : إنَ أول مَنْ وضع بذرة التشيُّع في حقل الاسلام هو نفس صاحب الشريعة الاسلامية ، يعني أنَّ بذرة التشيَّع وضعت مع بذرة الاسلام ، جنباً الى جنب ، وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ، ثم أثمرت بعد وفاته . وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشَّريفة ، لا من طرق الشِّيعة ورواة الامامية ، حتى يُقال : أنَّهم ساقطون لأنهم يقولون ( بالرجعة ) أو أنَّ راويهم ( يجر الى قرصه ) بل من نفس أحاديث علماء السنَّة وأعلامهم ، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع ، وأنا أذكر جملة ممّا علق بذهني من المراجعات الغابرة ، والتي عثرت عليها عفواً من غير قصد ولا عناية . فمنها : ما رواه السيوطي في كتاب ( الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور ) في تفسير قوله تعالى : ( أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البريّةِ ) . قال : أخرج ابن عساكر: عن جابربن عبدالله قال : كنّا عند النَّبي صلّى الله عليه وآله فاقبل عليٌ عليه السلام فقال النَّبي : « والَّذي نفسي بيده إنَ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » . ونزلت : ( إنَّ الِّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصّالِحاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريّةِ ) . وأخرج ابن عدي : عن ابن عبّاس قال : لما نزلت : ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال رسول الله [ صلّى الله عليه وآله ] لعلي [ عليه السَّلام ] : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين » . وأخرج ابن مردويه : عن علي عليه السَّلام قال : « قال لي رسول اللهّ صلى الله عليه واله : الم تسمع قول الله : ( إنَّ الّذينَ امَنُوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريّةِ ) أنتَ وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الامم للحساب تُدعون غرّاً محجَّلين » . انتهى حديث السيوطي (1). وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في ( صواعقه ) عن الدارقطني ، حدّث أيضاً عن أمِّ سلمة أنَّ النَّبي صلّى الله عليه واله قال : « يا علي أنت وأصحابك في الجنَّة »(2). وفي ( نهاية ابن الأثيم ما نصه في مادة ( قمح ) : وفي حديث علي عليه السَّلام قال له النَّبي صلّى الله عليه وآله : « ستقدم على الله أنتَ وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمَّحين » ، ثم جمع يده إلى عنقه ليريهم كيف الاقماح (3) . انتهى . وببالي أنَّ هذا الحديث أيضاً رواه ابن حجر في ( صواعقه ) وجماعة آخرون من طرق اُخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث (4). والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) يروي عن رسول الله [ صلّى الله عليه وآله ] أنَّه قال : « يا علي ، إذا كان يوم القيامة أخذتُ بحجزة الله تعالى ، وأخذتَ أنت بحجزتي ، وأخذ وُلْدِكَ بحجزتك ، واخذ شيعة ولْدِكَ بحجزتهم ، فترى أين يؤمر بنا»(5). ولو أراد المتتبع [ لـ ] كتب الحديث ، مثل : مسند الامام أحمد بن حنبل ، وخصائص النسائي ، وأمثالهما أنْ يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه . وإذا كان نفس صاحب الشريعة الاسلامية صلّى الله عليه وآله يُكرر ذكر شيعة علي عليه السَّلام ويُنوه عنهم بأنَّهم هُمُ الآمنون يوم القيامة ، وهم الفائزون والراضون المرضيون ، ولا شك أنَّ كلَّ معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول ، وأنَّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى (6) ، فإذا لم يصر كلّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله شيعة لعلي عليه السَّلام فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممَّن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه ، لا بضرب من التوسّع والتأويل . نعم ، وهكذا كان الأمر ، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصوا في حياة النبي صلّى الله عليه وآله بعلي عليه السَّلام ولازموه ، وجعلوه إماما كمبلِّغٍ عن الرسول ، وشارح ومفسِّرٍ لتعاليمه ، وأسرار حِكَمِه وأحكامه ، وصاروا يُعرفون بأنّهم شيعة علي عليه السَّلام كعَلَم خاص بهم كما نصًّ على ذلك أهل اللغة . راجع النهاية(7) ولسان العرب (8) وغيرهما(9) تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على أتباع علي عليه السَّلام وولده ومن يواليهم ، حتى صار اسماً خاصاً بهم . ومن الغني عن البيان أنَه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علي عليه السَّلام مَنْ يحبه أو لا يبغضه ـ بحيث ينطبق على أكثر المسلمين ، كما تخيَّله بعض القاصرين ـ لم يستقم التعبير بلفظ ( شيعة ) ، فانَ صرف محبة شخص لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعة له ، بل لا بدَّ هناك من خصوصية زائدة ، وهي الاقتداء والمتابعة له ، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً ، وهذا يعرفه كلُّ من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الألفاظ العربية ، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال . والقصارى إنِّي لا أحسب أنَ المنصف يستطيع أنْ ينكر ظهور تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصة من المسلمين ، ولهم نسبة خاصة بعلي عليه السلام ، يمتازون بها عن سائر المسلمين الَّذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب علياً ، فضلاً عن وجود من يبغضه . ولا أقول : إنَّ الاخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلّى الله عليه واله ولم يأخذوا بارشاده ، كلا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك ، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم ، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها ، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام(10). ثم إنَّ صاحب الشريعة لم يزل يتعاهد تلك البذرة ، ويسقيها بالماء النمير العذب من كلماته وإشاراته ، في أحاديث مشهورة عند أئمة الحديث من علماء السنَّة ، فضلاً عن الشِّيعة ، وأكثرها مروي في الصحيحين ، مثل : قوله صلّى الله عليه وآله : « عليٌ مني بمنزلة هارون من موسى » (11). ومثل : « لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق »(12). وفي حديث الطائر: « اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك » (13) . ومثل : « لأعطين الراية غداَ رجلاً يُحب اللهَ ورسولَهُ ويُحبه الله ورسولُهُ » (14). ومثل : « إنِّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللهّ ، وعترتي أهل بيتي » (15). و « عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي » (16). إلى كثير من أمثالها ممَّا لسنا في صدد إحصائه وإثبات أسانيده ، وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الامامية ، فقد ألَّف العالم الحبر السيِّد حامد حسين اللكناهوري كتاباً أسماه ( عبقات الأنوار ) يزيد على عشرة مجلَّدات ، كلُّ مجلَّد بقدر صحيح البخاري تقريباً ، أثبت فيها أسانيد تلك الأحاديت من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها ، وهذا واحد من اُلوف ممَّن سبقه ولحقه . ثمَّ لمّا ارتحل الرسول صلّى الله عليه وآله من هذه الدار إلى دار القرار ، ورأى جمع من الصحابة أنْ لا تكون الخلافة لعلي عليه السلام : إمّا لصغر سنِّه ! ! أو لأنَّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، زعماً منهم أنَّ النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا ! ! أو لاُمور اُخرى لسنا بصدد البحث عنها ، ولكنَّه باتفاق الفريقين امتنع أوَّلاً عن البيعة ، بل في صحيح البخاري ـ في باب غزوة خيبر : أنَه لم يُبايع إلاّ بعد ستة أشهر(17). وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة ، كالزبير وعمّار والمقداد وآخرين (18) . ثمَّ لمّا رأى تخلّفه يوجب فتقاً في الاسلام لا يُرتق ، وكسراً لا يُجبر ، وكلُّ أحد يعلم أنَّ علياً ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة ، ولا حرصاً على المُلك والغلبة والاثَرة ، وحديثه مع ابن عباس بذي قار مشهور(19) ، وإنما يريد تقوية الاسلام ، وتوسيع نطاقه ، ومد رواقه ، وإقامة الحق ، وإماتة الباطل . وحين رأى أنَّ المتخلّفين (20)ـ أعني الخليفة الأول والثاني ـ بذلا أقصى الجهد في نشركلمة التوحيد ، وتجهيز الجنود ، وتوسيع الفتوح ، ولم يستأثروا ولم يستبدوا ، بايع وسالم ، وأغضى عما يراه حقّاً له ، محافظة على الاسلام أن تتصدّع وحدته ، وتتفرَّق كلمته ، ويعود الناس الى جاهليتهم الأولى . وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ، ومستنيرين بمصباحه (21) ، ولم يكن للشِّيعة والتشيُع يومئذٍ مجال للظهور ، لأنَّ الاسلام كان يجري على مناهجه القويمة ، حتى إذا تميَّز الحقًّ من الباطل ، وتبيَّن الرشد من الغي ، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي عليه السَّلام وحاربه في ( صفَين ) انضم بقية الصحابة إلى علي عليه السَّلام حتى قتل أكثرهم تحت رايته (22) ، وكان معه من عظمعاء أصحاب النبي ثمانون رجلاً ، كلّهم بدريَ عقبي : كعمّار بن ياسر ، وخزيمة ذي الشَّهادتين ، وأبي أيوب الأنصاري ، ونظرائهم . ثمَّ لما قُتل علي عليه السلام واستتب الأمر لمعاوية ، وانقضى دور الخلفاء الراشدين ، سار معاوية بسيرة الجبابرة في المسلمين ، واستبد واستأثر عليهم ، وفعل في شريعة الاسلام ما لا مجال لتعداده في هذا المقام ، ولكن باتفاق المسلمين سار بضد سيرة مَنْ تقدمه من الخلفاء ، وتغلَب على الأُمَّة قهراً عليها ، وكانت أحوال أمير المؤمنين عليه السَّلام وأطواره في جميع شؤونه جارية على نواميس الزهد والورع ، وخشونة العيش ، وعدم المخادعة والمداهنة في شيء من أقواله وأفعاله ، وأطوار معاوية كلّها على الضد من ذلك تماماً . وقضية إعطائه مصر لابن العاص على الغدر والخيانة مشهورة(23) ، وقهر الاُمة على بيعة يزيد(24) ، واستلحاق زياد أشهر(25) ، وتوسّعه بالموائد وألوان المطاعم الأنيقة معلوم ، وكلُّ ذلك من أموال الأمَّة ، وفيء المسلمين الذي كان يصرفه الخليفتان (26) في الكراع والسلاح والجند . ويحدثنا الوزير أبو سعيد منصور بن الحسين اللآبي المتوفى سنة ( 422 ) في كتابه ( نثر الدرر ) ما نصَّه : . قال أحنف بن قيس : دخلتُ على معاوية فقدَّم لي من الحار والبارد ، والحلو والحامض ، ما كثر تعجبي منه ، ثم قدَّم لوناً لم أعرف ما هو: فقلتُ : ما هذا ؟ فقال : هذا مصارين البط محشوَّة بالمخ ، قد قلي بدهن الفستق ، وذرَّ عليه بالطبرزد . فبكيتُ ، فقال : ما يُبكيك ؟ قلت : ذكرتُ علياً ، بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره ـ وسألني المقام ـ فجيء له بجراب مختوم ، قلتُ : ما في الجراب ؟ قال : سويق شعير. قلتُ : خفتَ عليه أنْ يُؤخذ أو بخلتَ به ؟ قال : لا ولا أحدهما ، ولكن خفتُ أنْ يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت . فقلتُ : محرَّم هو يا أمير المؤمنين ؟ فتهال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحقِّ أنْ يعتدُوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يطغيَ الفقيرَ فقرُهُ . فقال معاوية : ذكرتَ مَنْ لا ينكر فضله (27). وتجد في ( ربيع الأبرار ) للزمخشري ونظائره لهذه النادرة نظائر كثيرة(28). هذا كلّه والناس قريبو عهد بالنبي والخلفاء ، وما كانوا عليه من التجافي عن زخارف الدنيا وشهواتها ، ثم انتهى الأمر به إلى أنْ دسقَ السّم إلى الحسن عليه السَّلام فقتله (29) ، بعد أنْ نقض كل عهد وشرط عاهد الله عليه له (30) ، ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً ، وحاله معلوم عند الأُمَّة يومئذٍ أكثر ممَّا هو معلوم عندنا اليوم . فَمِنْ هذا وأضعاف أمثاله استمكن البغض له والكراهة في قلوب المسلمين ، وعرفوا أنَّه رجل دنيا لا علاقة له بالدِّين ، وما أصدق ما قال عن نفسه فيما حدَّثنا الزمخشري في ( ربيعه ) قال : قال معاوية : أمَّا أبو بكر فقد سلم من الدنيا وسلمتْ منه ، وأمَّا عمر فقد عالجها وعالجته ، وأمَّا عثمان فقد نال منها ونالت منه ، وأمَّا أنا فقد تضجعتُها ظهراً لبطن ، وانقطعتُ إليها وانقطعتْ إليَّ (31) ومن ذلك اليوم ـ أعني يوم خلافة معاوية ويزيد ـ انفصلت السُّلطة المدنية عن الدينية ، وكانت مجتمعة في الخلفاء الأولين ، فكان الخليفة يقبض على احداهما باليمين وعلى الأًخرى بالشمال ، ولكن من عهد معاوية عرفوا أنَّه ليس من الدِّين على شيء ، وأنَ الدِّين له أئمة ومراجع هم أهله وأحقّ به ، ولم يجدوا مَنْ توفَّرت فيه شروط الإمامة ـ من : العلم ، والزهد ، والشجاعة ، وشرف الحسب والنسب ـ غير علي عليه السلام ووِلْدِهِ . ضمَّ إلى ذلك ما يرويه الصحابة للناس من كلمات النبي في حقِّهم ، والايعاز إلى أحقيتهم ، فلم يزل التشيُّعٍ لعلي عليه السَّلام وأولاده ـ بهذا وأمثاله ـ ينمو ويسري في جميع الأمَة الاسلامية سريان البُرء في جسد العليل ، خفياً وظاهراً ، ومستوراً وبارزاً . ثم تلاه شهادة الحسين عليه السلام ، وما جرى عليه يوم الطف ، ممَّا أوجب أنكسار القلوب والجروح الدامية له في النفوس ، وهو ابن رسول اللهّ وريحانته ، وبقايا الصحابة : كزيد بن أرقم ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وأنس بن مالك ، الَّذين شاهدوا حفاوة رسول الله صلى الله عليه وآله به وبأخيه ، وكيف كان يحملهما ويقول : « نِعْمَ المطية مطيتكما ، ونِعْمَ الراكبان أنتما . وأنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَة(32) ، وكثير من أمثال ذلك ، لم يزالوا بين ظهراني الأمَّة يبثون تلك الأحاديث ، وينشرون تلك الفضائل ، وبنو اُميَّة يَلِغُون في دمائهم ، ويتعقبونهم قتلاً وسماً وأسراً . كلُّ ذلك كان بطبيعة الحال ممَّا يزيد التشيع شيوعاً وانتشاراً ، ويجعل لعلي عليه السَّلام وأولاده المكانة العظمى في النفوس . وغرس المحبة في القلوب ، والمظلومية ـ كما يعلم كلُّ أحد ـ لها أعظم المدخلية. فكان بنو امية كلّما ظلموا واستبدوا ، واستأثروا وتقاتلوا على المُلك كان ذلك كخدمة منهم لأهل البيت عليهم السلام وترويجاً لأمرهم ، وعطفاً للقلوب عليهم ، وكلّما شذَدوا بالضغط على شيعتهم ومواليهم ، وأعلنوا على منابرهم سب علي عليه السلام وكتمان فضائله ، وتحويرها إلى مثالب ، انعكس الأمر وصار ( ردّ فعل ) عليهم . أما سمعتَ ما يقول الشّعبي لِوَلَدِهِ : يا بُني ، ما بنى الدِّين شيئاً فهدمته الدنيا ، وما بنت الدنيا شيئاً إلاّ وهدمه الدِّين ، اُنظر الى علي [ عليه السلام ] وأولاده ، فانَ بني أميَّة لم يزالوا يجهدون في كتم فضائلهم ، وإخفاء أمرهم ، وكأنَما يأخذون بضبعهم إلى السماء . وما زالوا يبذلون مساعيهم في نشر فضائل أسلافهم ، وكأنَما ينشرون منهم جيفة . هذا مع أنَّ الشّعبي كان ممَّن يُتهم ببغض علي عليه السَّلام (33). ولكنَّ الزمخشري يحدّثنا عنه في ( ربيعه ) : أنَّه كان يقول : ما لقينا من علي [ عليه السَّلام ] إنْ أحببناه قُتِلْنا وإنْ أبغضناه هَلَكْنا(34) . إلى أن تصرَّمت الدولة السفيانية وخلفتها الدولة المروانية(35) ، وعلى رأسها عبدالملك ، وما أدراك ما عبدالملك ، نصب الحجّاج المجانيق على الكعبة بأمره حتى هدمها وأحرقها ، ثم قتل أهاليها ، وذبح عبدالله بن الزبير في المسجد الحرام بين الكعبة والمقام ، وانتهك حرمة الحرم الذي كانت الجاهلية تعظمه ولا تستبيح دماء الوحش فيه فضلا عن البشر ، وأعطى عهد الله وميثاقه لابن عمِّه عمرو بن سعيد الأشدق ثم قتله غدراً وغيلة حتى قال فيه عبدالرحمن بن الحكم من أبيات : غَدرتُم بعمرو يابني خيط باطِلٍ * وَمثلكُمْ يبني العُهودَ على الغَدرِ(36) فهل هذه الأعمال تسيغ أن يكون صاحبها مسلماً ، فضلاً عن أن يكون خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين ؟ ! ثم سارت المروانية كلها على هذه السيرة ، وما هو أشق وأشقى منها ، عدا ما كان من العبد الصالح عمر بن عبدالعزيز. ثم خلفتها الدولة العباسية ، فزادت ـ كما يقال ـ في الطنبور نغمات ، حتى قال أحد مخضرمي الدولتين : يا ليت جور بني مروان دام لنا * وليت عدل بني العباس في النار وتتبعوالذراري العلوية من بني عمهم ، فقتلوهم تحت كل حجر ومدر ، وخربوا ديارهم ، وهدموا اثارهم ، حتى قال الشعراء في عصر المتوكل : تالله ان كانـت امـية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مـظلوما فلقد أتـتـه بنو أبـيـه بمثله * هذا لعمرك قبره مهـدومـا أسفوا على أن لايـكونوا شار * كوافي قتله فتتبعوه رميما(37) ضع في قبال ذلك سيرة بني علي عليه السلام وانسبها الى سيرة المروانيين والعباسيين ، هناك تنجلي لك الحقيقة في أسباب انتشار التشيع ، وتعرف سخافة المهوسين أنها نزعة فارسية أو سبائية أو غير ذلك ، هناك تعرف أنها اسلامية محمدية لا غير. انظر في تلك العصور الى بني علي عليه السلام وفي أي شأن كانوا ، انظرهم وعلى رأسهم الامام زين العابدين عليه السلام ، فأنه بعد شهادة أبيه انقطع عن الدنيا وأهلها ، وتخلمص للعبادة ، وتربية الأخلاق ، وتهذيب النفس ، والزهد في حطام الدنيا ، وهو الذي فتح هذا الطريق لجماعة من التابعين : كالحسن البصري ، وطاووس اليماني ، وابن سيرين ، وعمرو بن عبيد ، ونظائرهم من الزهاد والعرفاء ، بعد أن أوشك الناس ان تزول معرفة الحق من قلوبهم ، ولا يبقى لذكر الله أثراً إلا بأفواههم ، ثم انتهى الامر الى ولده محمد الباقر عليه السلام وحفيده جعفر الصادق عليه السلام . فشادوا ذلك البناء . وجاءت الفترة بين دولتي بني امية وبني العباس ، فاتسع المجال للصادق عليه السلام ، وارتفع كابوس الظلم وحجاب التقية ، فتوسع في بث الأحكام الإلهية ، ونشر الأحاديث النبوية التي استقاها من عين صافية من أبيه ، عن جده ، عن أمير المؤمنين ، عن رسول الله صلى الله عليه واله ، وظهرت الشيعة ذلك العصر ظهوراً لم يسبق له نظير فيما غبر من أيام آبائه ، وتولعوا في تحمل الحديث عنه ، وبلغوا من الكثرة ما يفوت حد الاحصاء ، حتى أن أبا الحسن الوشاء قال لبعض أهل الكوفة : أدركت في هذا الجامع ـ يعني مسجد الكوفة ـ أربعة الاف شيخ من أهل الورع والدين كل يقول : حدثني جعفر بن محمد(38). ولا نطيل بذكر الشواهد على هذا فنخرج عن الغرض ؛ مع أن الأمر أجلى من ضاحية الصيف . ولا يرتاب متدبر أن اشتغال بني امية وبني العباس في تقوية سلطانهم ، ومحاربة أضدادهم ، وانهماكهم في نعيم الدنيا ، وتجاهرهم بالملاهي والمطربات ، وانقطاع بني علي عليه السلام إلى العلم والعبادة ، والورع والتجافي عن الدنيا وشهواتها ، وعدم تدخلهم في شأن من شؤون السياسة ـ وهل السياسة إلا الكذب والمكر والخداع ـ كل ذلك هو الذي أوجب انتشار مذهب التشيع ، وإقبال الجم الغفير عليه . ومن الواضح الضروري أن الناس وإن تمكن حب الدنيا والطموح الى المال في نفوسهم ، وتملك على أهوائهم ، ولكن مع ذلك فإن للعلم والدين في نفوسهم المكان المكين ، والمنزلة السامية ، لا سيما وعهد النبوة شريب ، وصدر الاسلام رحيب لا يمنع عن طلب الدنيا من طرقها المشروعة ، لا سيما وهم يجدون عياناً أن دين الاسلام هو الذي در عليهم بضروع الخيرات ، وصب عليهم شآبيب البركات ، وأذل لهم ملك الأكاسرة والقياصرة ، ووضع في أيديهم مفاتيح خزائن الشرق والغرب ، وبعض هذا فضلاً عن كله لم تكن العرب لتحلم به في المنام ، فضلاً عن أن تأتي بتحقيقه الأيام ، وكل هذا مما يبعث لهم أشد الرغبات في الدين ، وتعلم أحكامه ، والسير ولو في الجملة على مناهجه ، ولو في النظام الاجتماعي ، وتدبير العائلة ، وطهارة الأنساب ، وأمثال ذلك ، لا جرم أنهم يطلبون تلك الشرائع والأحكام أشد الطلب ، ولكم لم يجدوها عند اولئك المتخلفين ، والمتسمي كل واحد منهم بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين ! !. نعم وجدوا أكمله وأصحه وأوفاه عند أهل بيته ، فدنوا لهم ، واعتقدوا بإمامتهم ، وأنهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه واله حقاً ، وسدنة شريعته ، ومبلغو أحكامه الى امته . وكانت هذه العقيدة الإيمانية ، والعاطفة الإلهية ، كشعلة نار في نفوس بعض الشيعة ، تدفعهم الى ركوب الأخطار ، وإلقاء أنفسهم على المشانق ، وتقديم أعناقهم أضاحي للحق ، وقرابين للدين . اعطف بنظرك في هذا المقام إلى حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار ، وعبدالله بن عفيف الازدي ، إلى عشرات المئات من أمثالهم ، انظر كيف نطحوا صخرة الضلال والجور وما كسرت رؤوسهم حتى كسروها وفضخوها ، وأعلنوا للملأ بمخازيها ، فهل تلك الإقدامات والتضحية من اولئك الليوث كانت لطمع مال ، أو جاه عند أهل البيت عليهم السلام ، أو خوفاً منهم وهم يومئذ الخائفون المشردون ؟ ! كلا ، بل عقيدة حق ، وغريزة إيمان ، وصخرة يقين . ثم انظر إلى فطاحل الشعراء في القرن الأول والثاني ، مع شدة أطماعهم عند ملوك زمانهم ، وخوفهم منهم ، ومع ذلك كله لم يمنعهم عظيم الطمع والخوف ـ والشاعر مادي على الغالب ، والسلطة من خلفهم ، والسيوف مشهورة على رؤوسهم ـ أن جهروا بالحق ونصروه ، وجاهدوا الباطل وفضحوه . خذ من الفرزدق ، إلى الكميت ، الى السيد الحميري ، إلى دعبل ، إلى ديك الجن ، الى أبي تمام ، إلى البحتري ، إلى الأمير أبي فراس الحمداني صاحب الشافية : الدين مخترم والحق مهتضم * وفيء آل رسول الله مقتسم إلى آخر القصيدة ، راجعها وانظر ما يقول فيها(39). بل لكل واحد من نوابغ شعراء تلك العصور القصائد الرنانة ، والمقاطيع العبقرية في مدح أئمة الحق ، والتشنيع على ملوك زمانهم بالظلم والجور ، وإظهار الولاء لاولئك والبراءة من هؤلاء . فلقد كان دعبل يقول : إني أحمل خشبتي على ظهري منذ أربعين سنة ، فلم أجد من يصلبني عليها . وكان قد هجا الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم ، ومدح الصادق والكاظم والرضا ، وأشعاره بذلك مشهورة ، وفي كتب الأدب والتاريخ مسطورة(40). هذا كله في أيام قوة بني امية وبني العباس ، وشدة بأسهم وسطوتهم ، فانظر ماذا يصنع الحق واليقين بنفوس المسلمين ، واعرف هنالك حق الشجاعة والبسالة ، والمفاداة والتضحية ، وهذا بحث طويل الذيل ينصب ـ لو أردنا استيفاءه ـ انصباب السيل ، وليس هو المقصود الان بالبيان ، وإنما المقصود بيان مبدأ [ شجرة ] التشيع وغارسها في حديقة الإسلام ، وشرح أسباب نشوئها ونموها ، وسموها وعلوها . وما تكلمت عن عاطفة ، بل كباحث عن حقيقة ، يمشي على ضوء أمور راهنة ، وعلل وأسباب معلومة ، وأحسبني بتوفيقه تعالى قد أصحرت بذلك وأعطيته من البحث حقه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ثم لا يذهبن عنك أنه ليس معنى هذا أنا نريد أن ننكر ما لاولئك الخلفاء من الحسنات ، وبعض الخدمات للاسلام ، التي لا يجحدها إلا مكابر ، ولسنا بحمد الله من المكابرين ، ولا سبابين ولا شتامين ، بل ممن يشكر الحسنة ويغضي عن السيئة ، ونقول : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وحسابهم على الله ، فإن عفا فبفضله ، وإن عاقب فبعدله ، وما كنا نسمح لصل القلم أن ينفث بتلك النفثات لولا أن بعض كتاب العصر بتحاملهم الشنيع على الشيعة أحرجونا فاحوجونا الى بثها ( نفثة مصدور ) وما كان صميم الغرض إلا الدلالة على غارس بذرة التشيع ، وقد عرفت أنه هو النبي الأمين ، وأن أسباب شيوعها وانتشارها سلسلة أمور مرتبطة بعضها ببعض ، وهي علل ضرورية تقتضي ذلك الأثر بطبيعة الحال . ____________ (1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6: 379 . (2) الصواعق المحرقة : 96 . (3) النهاية 4 : 106 . (4) راجع : كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة للسيد مرتضى الحسيني ، وكتاب إحقاق الحق وإزهاق الباطل للسيد التستري ، وغيرهما من المصادر المختصة بايراد هذه الاحاديث الواردة في كتب العامة ، حيث تجد الكثير الكثير من هذه الروايات وبطرقها المختلفة . (5) ربيع الابرار 1 : 808 . (6) إشارة إلى قوله تعالى في حق رسوله الكريم مُحَمَدٍ صلى الله عليه وآله في سورة النجم ( 53 : 3 ـ 4 ) : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلأ وَحي يُوحى ) . (7) النهاية 2 : 519 . (8) لسان العرب 8 : 189 . (9) القاموس المحيط 3 : 47 ، أقرب الموارد 1: 627 ، مجمع البحرين 4 : 6 35 ، تاج العروس 5 : 405 . (10) بلى إنَ صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لهم من الفضل والدرجة العظيمة التي ليست بخافية على أحد ، بل وكانوا ولازالوا موضع إحترام وتقدير وتبجيل من قبل المسلمين ، والشِّيعة في أوائلهم . ولاغرو في ذلك ، فانّ كتاب الله عزَّ وجل يحذَثنا في أكثر من موضع عن تلك المنزلة السامقة لاؤلئك المؤمنين المجاهدين الذين شادوا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام صرح الاسلام ، وأقاموا أركانه . قال الله تعالىِ في أواخر سورة الفتح المباركة : ( مُحَمَّد رَسُولُ الله وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدَاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَينهُمْ تَراهُمْ ركعاً سجداً يَبْتغُونَ فضلاًَ مِنَ الله ِ وَرِضواناً ...) . وكذا ترى ذلك بوضوح عند مراجعتك لاقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، وذلك ما لا ندعيه ولا نتقوّله . . . إلأ إنا لا نتفق مع مَنْ يذهب إلى سريان هذا الامر على جميع صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، دون فحص وتمييز ، وكذا يوافقنا في ذلك كلُّ عاقل منصف مدرك للحقيقة . فالقرآن الكريم ، والسنَّة النبوية المطهَرة ، والوقائع التاريخية الثابتة تؤكد صواب ما نذهب اليه ، وبطلان ما ذهب اليه الاخرون ، سواء كانوا من الذين اظفوا هذه الصفة على الجميع ، أو من طعنوا في الجميع دون دليل أو حجة أو برهان سليم ، وإنْ كانت الجماعة الاولى هي الاكثر ، وهي صاحبة الرأي السائد عند اخوانا من أبناء العامَة ، وهم يُشكلون الطرف الاكثر والاوسع في عموم المسلمين ، قِبال الشيعة التي تشكَل الثقل الاكبر الثاني في المذاهب الاسلامية المختلفة . واذا كنّا لا نتفق معهم في نسبة العدالة إلى جميع الصحابة دون استثناء ، ودون مناقشة تذكر في صحة نسبة تلك العدالة إلى بعض الجماعات التي ثبت تاريخياً انحرافها عن مفهوم العدالة الاسلامية ، فإن هذا لا يعني أبداً الاتفاق مع الجماعة الاخرى الذاهبة الى الطعن في جميع الصحابة ، لانه رأي تافه وسقيم ولايستحق النقاش ، ولذا فان حديثنا سيكون مع الجماعة الاولى ، والتي تلقي باللوم على الشِّيعة لاعتمادهم اسلوب تقييم الصحابة وفق المنهج السماوي والمقياس الشرعي الذي جاءت به الشريعة الاسلامية المتكاملة والواضحة ، من دون تحزب أعمى ، أو تعصُّب مقيت ، وحيث تعضدنا في ذلك المبادئ السليمة التي اعتمدناها في هذا تبني هذا المنهج السليم . فلنتوقف قليلاً ولنتأمَّل فيما نقول . أقول : ولنبتدأ أولاً بما تقدم منّا من ذكر الاية المباركة السالفة والمثنية على صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله . فهذه الآية القرآنية المباركة تحمل في طياتها الدليل الواضح على صحة هذا الاستثناء الذي نقول به ، والمؤيدة له ، حيث جاء في آخرها ( وَعَدَ الله الَذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ مِنْهُم مَغفِرةً وَأجراً عَظيماً ) فكلمة ( منهم ) المبغِّضة تدل بوضوح على التمييز بين فئتين أو طائفتين ، احداهما مؤمنة عاملة ، والاخرى لابد أنْ تكون مخالفة لها . بلِ وفي قوله تعالى في نفس السورة ( الآية 10 ) ( إن الذينَ يُبايعُونَكَ إنما يُبايعُونَ الله َ يَدُ اللهِ فوقَ أيدِيهِم فَمَنْ نَكَثَ فَانما يَنكتُ عَلى نَفسِهِ وَمَنْ أوفى بمَا عاهَدَ عَلَيهَِ اللهَ فَسَيُؤتيهِ أجْراً عَظِيماً ) عين الدلالة ، وذات المعيار ، وغيرها وغيرها . ثم أوَ ليس قد تواتر في كتب القوم المعروفة بالصحاح وغيرها الكثير من الاخبار الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله الدالة بوضوح على انحراف جماعة معلومة ومبجلة من الصحابة معررفة باعيانها ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله المروي في البخاري ( 8 : 148 ) : « انا فرطكم على الحوض ، وليرفعنَّ رجالاً منكم ثم ليختلجن دوني ، فأقول : يارب أصحابي ! فيقال : إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك » . ومثله روى ذلك مسلم في صحيحه ( 4 : 1796 ) وأحمد في مسنده ( 3: 140و281 و5 : 48 ، 50، 388 ، 400 ). وأما الحاكم النيسابوري فقد روى في مستدركه ( 4 : 74 ) : « إني ـ أيها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فاذا جئتُ قام رجل ، فقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان . فاقول : قد عرفتكم ، ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى » . بل إن ابن ماجة في سننه أضاف أن رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول في حقِّ أصحابه أؤلئك « سُحقاً سُحقاً » . ثم ألَم يمرعلينا حديث رسول الله صلى الله عليه واله مع أبي بكر ـ وهو من كبار الصحابة وأعيانهم ـ عندما قال صلّى الله عليه وآله عن شهداء اُحد : « هؤلاء أشهد عليهم » فقال له أبو بكر: ألَسنا ـ يا رسول الله ـ باخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال له رسول الله صلَى الله عليه واله : « بلى ، ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي » . انظر : موطأ مالك 2 : 3261|4 . فانظر وتأمل في دلالة هذا الحديث ، ومَنْ هو المخاطَب ، لتدرك بوضوح أن لا أحد مُستثنى من هذه الموازين الشرعية ، فمن خالف أوامر رسول الله صلى الله عليه واله واتبع هواه وهوى الشيطان فان الشَّريعة الاسلامية هي التي تنبذه لا نحن ، وتلك بديهية لا أعتقد أنَّها تحتاج الى برهان . فهل نأتي نحن المسلمين في آخر الزمان ضاربين عرض الحائط باقوال رسول الله صلى الله عليه وآله بحقَ هذه الطائفة ممّن أحدثوا وبدَّلوا وغيروا وانحرفوا لنترحَم عليهم ، ونبجًلهم ونقدِّمهم ، دون وعي أو تدبُّر أو دليل ؟ ! إنَ ذلك لا يقول به عاقل أبداً . ثم أعود فأسال : مَنْ كان أصحاب الافك الذين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله ، واتهموه في عرضه ، والذين توعدهم اللهّ تعالى بالعقاب الاليم والعذاب الشديد ، هل كانوا إلاّ جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ، أم ماذا؟ بل ومَنْ اولئك الذين ارادوا الكيد برسول الله صلّى الله عليه وآله وقتله عند عودته من تبوك ، هل كانوا ايضاً إلاّ من صحابته صلّى الله عليه وآله ( راجع : مسند أحمد5: 453 ، مغازي الواقدي 3: 1042 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 256 ، وغيرها ) . ثم ماذا يعني هذا التكرار الواضح في آيات القرآن الكريم المحذِّرة من كيد المنافقين الذين أظهروا الايمان وأسرّوا الكفر والمعاداة ، حتى لقد بلغ عدد المرَّات التي وردت فيها كلمة المنافقين والمنافقات في القرآن الكريم ( 32 ) مرة . وأخيراً أعود فأسال العقلاء : كيف تستسيغ العقول أنْ تضفي مسالة العدالة والنزاهة على جميع الصحابة دون استثناء أو تامًل في سيرة ذلك الصحابي وعرض أفعاله على المقياس الشرعي الذي أقرَّته الشريعة الاسلامية الخالدة لا لشيء إلاّ لانَّه رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله أوصحبه ، وكأنَّ في تلك الصحبة تنزيهاً أو عصمة من الادانة والمحاسبة ، وجوازاً للفوز بالرضا الالهي ، مهما فعل هذا الصحابي وأسرف وخالف ، رغم مخالفة ذلك التصوُر السقيم لابسط المفاهيم الاسلامية المعروفة لدى جميع المسلمين ؟! إنَ ذلك والله لمن عجائب الامور . كيف وأنَّ الله تبارك وتعالى قد هدد زوجات الرسول صلى الله عليه وآله ـ وهن أقرب اليه صلّى الله عليه وآله ، واشد تماسَاً به من جميع الصحابة ـ بمضاعفة العذاب إذا ارتكبنَ ما يُخالف الشريعة الاسلامية ، دون نظر منه تبارك وتعالى إلى شدة هذا التماس هذا القرب ، إذ قال جلً اسمه في سورة الاحزاب ( الآية 30 ) : ( يا نساء النبي منْ يَأتِ منكُنَّ بفاحِشَةٍ مُبَيِّنَتن يُضاعَف لَها العَذابُ ضِعْفَينِ وَكانَ ذلك على اللهِ يَسيراً ) فاذا كان الامر وفق هذَا المفهوم فانَ من يُخالف من الصحابة يجب أنْ يًضاعف عليه النكير ، لانَه أساء إلى شرف الصحبة وكرامتها . نعم إن لدينا ألف دليل ودليل على صحة ما نذهب إليه ، ولا أريد هنا استعراض جملة معروفة ممَن يُسمَون بالصحابة هم والله أشد ضرراً وكلَباً على الاسلام وأهله من النصارى واليهود ، فليس هذا المكان المحدود بمحل مستساغ لهذا المبحث المهم ، إلاّ إنِّي أعتقد بأنَ القول بعدالة جميع الصحابة ـ والذي كان أوَل من دعا اليه أهل الحديث ثم أصبح بعد ذلك عقيدة ثابتة من العقائد التي مُنحت على أساسها تلك الجماعات سهماً في التشريع الاسلامي ، بل وأنْ تكون لهم سنن كسنن رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل وأنْ تكون آرائهم حجة على الناس الى يوم القيامة ـ كان من بدع الفئات المنحرفة عن أهل البيت عليهم السَّلام ، والمناصرة لفساد معاوية بن أبي سفيان ، وبسر بن ارطاة ، وسمرة من جندب ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية بن حديج وغيرهم ممَن لاعذر لهم في كثير من أفعالهم الفاسدة ، ولا يستطيع أحد تقديم العذر لهم فيها ، إلاّ طريق نسبة العدالة اليهم ، وكذا نسبة حق الاجتهاد لهم حتى ولو كان ذلك قِبالة النصً ، فعمدوا إلى ذلك ، وتشبثوا به ، فصار هذا الخليط الممجوج الهجين سنة سارت عليها الجماعات اللاحقة بهم دون أدنى وقفة أو مراجعة لمدى صواب ذلك المنهج الخاطئ والمردود . (11) انظر: صحيح البخاري 5 : 24 ، سنن ابن ماجة 1: 52|114 ، صحيح مسلم 4 : 2404 ، سنن الترمذي 5: 638|3724 و640|3731 ، اُسد الغابة5 : 8 ، الرياض النضرة 3 : 117 ، تاريخ بغداد 4 : 104 ، حلية الاولياء 7 : 194 ، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 1 : 124 . (12) أنظر: صحيح البخاري 5: 86|131 ، صحيح الترمذي 5: 635|3717 ، سنن ابن ماجة 1: 42/114 ، تأريخ بغداد 2: 255 ، و8: 417 و14: 426 ، حلية الاولياء 4: 185، الرياض النضرة 3: 189. (13) انظر: سنن الترمذي 5 : 636|3721 ، اُسد الغابة 4 : 30 ، مستدرك الحاكم 3 : 130، الرياض النضرة 3 : 114 ، حلية الاولياء 6 : 339 ، ترجمة الامام علي عليه السَّلام من تاريخ دمشق 2 : 105 ـ 151 ، تذكز الخواص : 44 . (14) انظر : صحيح البخاري 4 : 65و73 ، سنن الترمذي 5 : 638|3724 ، سنن ابن ماجة 45:1|121 ، مسند أحمد 4 : 52 ، سنن البيهقي 9 : 131 ، التاريخ الكبير للبخاري 7 : 263 ، المصنّف لعبد الرزاق 5 : 287|9637 . (15) اُنظر : سنن الترمذي 5: 662|3786 و 663|3788 ، مسند أحمد 3 : 17 و 5 : 181، مستدرك الحاكم 3: 109 و 148 ، اُسد الغابة 2 : 2 1 . (16) اُنظر : تاريخ بغداد 14 : 321 ، مستدرك الحاكم 3: 124 ، ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 3 : 117|1159 . (17) صحيح البخاري 5 : 177 ، وانظر كذلك : صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير 5 : 152 ، الامامة والسياسة 1 : 11 ، مروج الذهب 2 : 302 ، تاريخ الطبري 3 : 208 ، الكامل في التاريخ 2 : 327 ، الصواعق المحرقة : 13 . (18) منهم : أبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والمقداد بن عمرو ، وعمار بن ياسر ، وفروة بن عمرو ، وخالد بن سعيد بن العاص ، واُبي بن كعب ، والبراء بن عازب ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وخزيمة بن ثابت ، وغيرهم . راجع : مروج الذهب 2 : 301 ، العقد الفريد 4 : 259 ، تاريخ الطبري 3 : 208 ، الكامل في التاريخ 2 : 325 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 103 ، تاريخ ابي الفداء 2 : 63 . (19) قال عبدالله بن عبّاس : دخلتُ علن أمير المؤمنين عليه السَّلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال رحمه الله لي : ما قيمة هذهِ النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها. فقال عليه السلام : « والله لهي أحب إلى من امرتكم إلاّ أنْ اُقيم حقَاً ، أو أدفع باطلا » . . . . انظر : شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1 : 32|76 . (20) صوابها ( المختلف ) لأنَّ الامر برمته كان في عهد أبي بكر ، ومثل ذلك في المفردات اللاحقة ، فلاحظ . (21) إن إدراك حقيقة الموقف الذي اتخذه أمير المؤمنين علي عليه السلام بالتسليم الظاهري لواقع الحال الذي ترتَّب عليه وضع الدولة الاسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، لا يتأتى إلاّ من خلال التأمل الدقيق لمفردات الواقع الذي عايشته تلك الدولة الفتية والغضة أبان تلك الفترة الحساسة والدقيقة من حياتها ووجودها المقدس . اقول : إنَّ من الثابت الذي سجله معظم المؤرخين لتلك الحقبة الغابرة من التاريخ الاسلامي أن أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة حاولوا قسراً وتهديداً اجبار الامام علي عليه السلام على البيعة لابي بكر أوَّل الامر ، والتنازل عن موقفه المبتني على حقَه الشرعي في خلافة رسول الله صلَى الله عليه وآله ، حتى بلغ الامر بهم إلى التهديد الصريح باحراق بيته عليه السلام ، وحيث كانت فيه بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وثلة من الصحابة الذين أعلنوا رفضهم لما ترتًب عليه الامر في سقيفة بني ساعدة أثناء غَيبة أهل البيت عليهم السلام وانشغالهم بأمر تغسيل وتكفين رسول الله صلى الله عليه وآله ، بالشكل الذي ينبغي ان يكون عليه ، لما يمثله من الوداع الاخير لنبي الرحمة صلّى الله عليه وآله . . . وإلى حقيقة هذه المحاولة الخطيرة التي لجأ اليها هؤلاء الصحابة أشارت بوضوح الكثير الكثير من المصادر والمراجع التاريخية المختلفة المثبتة لوقائع الايام الاولى لما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ( راجع : تاريخ الطبري ، الامامة والسياسة لابن قتيبهّ ، أنساب الاشراف للبلاذري ، تاريخ ابن شحنة ، تاريخ ابي الفداء ، شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي ، كتاب الملل والنحل للشهرستاني ، مروج الذهب ، العقد الفريد ، كتاب أعلام النساء لابن طيفور ، وغيرها ). وتحضرني اللحظة جملة أبيات شعرية قرأتُها للشاعر حافظ ابراهيم ، تشير بوضوح الى هذا الامر ، يقول فيها : وقـَـولَةٍ لـِعـَليٍ قـالها عُمَرُ * أكْرِمْ بِسامِعِها أعْظِمْ بِمُـلْـقِـيـهـا حَـرقْتُ داركً لااُبقي عَليكَ بِها * إنْ لَم تُبايع ، وَبنتُ المُصطفى فيها !! ماكـانَ غيرُ أبي حَفصٍ بِقاثِلِها * أمامَ فارِسِ عَدنانٍ وَحـامـِـيـها !!!. بيد أن هذه المحاولة الرهيبة ـ والتي تشكًل سابقة خطيرة في التاريخ الاسلامي ، وغيرها من المحاولات السقيمة ـ لم تكن لتؤدي بالنتيجة المرجوة من قِبَل الحكومة الاسلامية آنذاك لولا الحس العميق ، والادراك الدقيق لجملة النتاثج المترتبة على الوقوف المعارض المعلن أمام ذلك الطرف المستهجن في مسيرة الدولة الاسلامية ـ وما سيتلاقى به مع واقع الحال الذي يحيط بالدولة الفتية من كل جانب ـ لدى الامام علي عليه السلام ، وإلى ذلك تشير خطبه وكلماته المليئة بالشكوى والتظلّم . نعم ، لقد كانت المدينة المنوَّرة وما يحيط بها حلقة حساسة وخطيرة لقربها من مركز الدولة الاسلامية وعاصمتها ، في حين كان يعتاش بين جدرانها والى جوارها من يريد الكيد بها ، والانقضاض عليها ، ومن هؤلاء : اولاً: المنافقون الذين كانوا يشكَلون شريحة لا يستهان بها ، بل وكان خطرهم أكبر واعظم من أنْ يُغض الطرف عنه . قال تعالى في سورة التوبة الآية 101: ( وَممَنْ حَولَكُمْ مِنَ الاعراب مُنافِقونَ وَمِنْ أهلِ المَدينةِ مَرَدُوا على النفاقِ لاتعْلَمَهُمْ نَحن نعْلَمَهْمْ سَنُعَذِّبَهُمْ مرتَينْ ثُم يُردُونُ إلى عَذابٍ عَظيم ). ثانياً : اليهود ، وهم أشد الناس عداوة للاسلام واهله . ثالثاً : الدول والامبراطوريات التي كَانت ترى في السلام خطراً أكيداً عليها ، كالرومان والاكاسرة والقياصرة . رابعاً : المراكز المنحرفة والفاسدة التي حتاولت عبثاً ان تجد لها موطأ قدم في أرض الواقع ، يضافي إليها مدعي النبوة ممن وجدوا اعداداً لايستهان بها من الحمقى والمغفلين يؤيدونهم في ترهاتهم ومفاسدهم أمثال : مسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد ، وسجاج بنت الحرث . وغير ذلك من الاسباب الاُخرى ، والتي أدرك إلامام علي عليه السلام مدى خطرها على الدولة الاسلامية المباركة التي كاد لجهاده وسيفه الفضل الاكبر بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله في اقامتها وتثبيتها . وإليك أخي القارئ الكريم شيئاً من كلماته عليه السلام الموضحة لواقع الحال الذي عايشه عليه السلام ، والذي دفعه لغض النظر عن حقِّه الشرعي ، ومكانه الحقيقي : قال عليه السلام فيما يعرف بالخطبة الشقشقيهّ : « أما والله لقد تقمصها فلان [ وفي بعض المصادر: ابن أبي قحافة ، ولا خلاف في ذلك ، فانَ الحديث لواضح ، والتلميح يغني عن التصريح هنا ] وإنَه ليعلم أنَ محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أنْ أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى به ، فرأيتُ أنَ الصبر على هاتا أحجى . فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تُراثي نهباً » . . . . . وفي احدى خطبه عليه السلام يقول : « . . . . فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فظننتُ بهم على الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرتُ على أخذ الكظم ، وعلى أمَر من طعم العلقم » . وفى كتابه عليه السَّلام إلى أهل مصر يقول : « . . . فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان ليبايعوّنه ، فامسكتُ يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمد صلّى الله عليه وآله ، فخشيتُ إنْ لم أنصر الاسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايَتِكُم » . وقوله عليه السَّلام عند فتنة الجمل : « فوالله ما زلتُ مدفوعاً عن حقي ، مُستاثَراً عليَّ منذ قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله حتن يوم الناس هذا ». ويروي هو عليه السَلام حديثاً له مع بعض الصحابة : « وقد قال قائل : إنَك على هذا الامر يا بن أبي طالب ـ لحريص ! فقلتُ : بل أنتم والله أحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنَّما طلبتُ حقَّاً لي وأنتم تحولون بيني و بينه ، وتضربون وجهي دونه . فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبَ كأنَه بُهِتَ لا يدري ما يجيبني به » . واخيراً اليك أخي القارئ الكريم دعاء أمير المؤمنين عليه السلام وتظلمه ممَا وقع عليه من قِبَلِ قريش ، فتأمَّل فيه بروية وامعان : « اللهَم إنَي أستعديك على قريشِ ، ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراَ هو لي » . (22) منهم : عمّار بن ياسر ، خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، أبو عمرة الانصاري ، ثابت بن عبيد الانصاري ، عبدالله بن بديل الخزاعي ، أبو الهيثم مالك بن التيهان ، هاشم المرقال ، عبدالرحمن بن بديل الخزاعي ، جندب بن زهير الازدي ، سعد بن الحارث الانصاري. (23) روت المصادر التأريخية المختلفة : أن معاوية بن هند لما عزم على الخروج على علي ابن ابي طالب عليه السَلام ، أرسل الى عمرو بن العاص طالباً منه القدوم إليه من مصر ، فشد إليه الرحال حتى قدم عليه في الشام ، فتذاكرا أمر الخروج على علي عليه السلام وقتاله ، فترادا في القول حتى قال معاوية له : ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونُلزمه قتل عثمان . فقال عمرو: واسوأتاه ، إنَ احقَّ الناس ألاّ يذكر عثمان لا أنا ولا أنت ! ! فقال معاوية : ولِمَ ويحك ؟ فقال : أما انت فخذلته ـ ومعك أهل الشام ـ حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي ، واما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين ! ! فقال معاوية : دعني من هذا ، مُدَ يدك فبايعني . قال : لا لعمر الله ، لا اُعطيك ديني حتى آخذ من دنياك ! ! فقال معاوية بن هند: لك مصر طعمة. وهكذا اتفق الفريقان حيث تم لمعاوية ما اراد من شراء دين ابن العاص قبال ثمن زهيد ومتاع قليل ، لم يلبث أنْ خلَفه من وراءه ليقف أمام محكمة السماء مثقلاً بذنوبه ومعاصيه ، حتى قيل أنه تذكَر ذلك على فراش الموت ـ على ما ترويه كتب التأريخ ـ فقال : ياليتني متُ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني ، أثرت دنياي وتركت آخرتي ، عُمِّي عليّ رشدي حتى حضرني أجلي . أنظر: وقعة صفين : 34 ، تأريخ اليعقوبي 2 : 184 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 2|61 ، سير أعلام النبلاء 3 : 72 ، مختصر تأريخ دمشق 19: 244 ، العقد الفريد 4 : 97 و 5 : 92 ، عيون الاخبار 1: 438 . (24) وتلك والله وحدها موبقة عظيمة كفيلة بايراد معاوية في أسفل درك الجحيم ، حيث ملًك رقاب الاُمة رجلاً تجمعت فيه كل صفات الرذيلة والانحطاط بشكل جلي ، بل وكان من أوضح الناس عداءً لله ولرسوله ، وبغضاً لاهل بيت النبوة عليهم السَلام ، حتى فعل ما فعل ابان حكمه القصير من الفجائع والنكبات ما ترتعش من هولها السموات والارضين ، كان أعظمها قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وريحانته ، وسيِّد شباب أهل الجنة ، الامام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السَّلام مع اخوانه وأهل بيته وأصحابه ، بل وسبي عياله والطواف بهم في البلدان بشكل تتفطَّر له القلوب ، وتتصدع له الجبال . . . . فما فعل معاوية بهذه الأمة وما جنن عليها . . . . بل وبمن تتعلًق هذه الجناية العظيمة ، والرزية المهولة ؟ ثم هل ينجو معاوية من واقعة الحرة التي فجع فيها ولده اللعين مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، واستباح فيها الاموال والدماء والاعراض ، وغير ذلك مما لا تحتمله القلوب ولا تصدقه العقول ، بل ووضع سيفه في رقاب المسلمين حتى قتل يومئذ من المهاجرين والانصار وغيرهم من المسلمين أكثر من عشرة آلاف رجل كما تذكر ذلك الكثير من المراجع والمصادر المختلفة ، حتى لقد قيل بانه لم يبق في المدينة بدري بعدها ، ناهيك عمن قُتل من النساء ايضاً والصبيان . . . ، بل وروي ايضاً بان جنده وأزلامه افتضوا في هذه الواقعة ألف عذراء من بنات المهاجرين والانصار ، وأمروا المسلمين بالبيعة لاميرهم اللعين يزيد على أنهم عبيد وخول ، إنْ شاء استرق وإنْ شاء أعتق ! ! . نعم ، هذه وغيرها من الموبقات العظيمة التي لا عد لها ولا حصر ، والتي لا تصدر إلاّ عن كافر ، خبيث السريرة ، نتن الطوية ، لعين المرتع . وأخيراً اقول : ماذا فعل معاوية بهذه الاُمة ، وانّى له التنصُّل من تبعات هذه الافعال الثقال التي لحقت بافعاله هو والتي لاتقل عنها فساداً ولا انحرافاً . (25) نعم الحقه بدعوى أن ابا سفيان زنى بسمية ـ وكانت من ذوات الرايات ـ وهي على فراش عبيد ، فحملت بزياد ، وذلكُ بشهادة أبي مريم ، المتاجر بالخمور والقيادة ، فهنيئاً للامة الاسلامية بكذا زعماء لايزال البعض يكنّون لهم الاحترام والتقدير والتقديس ، بعد أنْ حرَّفوا الذَين ، وضيّعوا حدوده ، وأباحوا حرماته ، وسفكوا دماء أهله ، وما تركوا شيئاً منكراً إلاّ وفعلوه . اُنظر: تاريخ الطبري 5: 214 ، الكامل في التأريخ 3 : 441 ، مروج الذهب 3 : 193، العقد الفريد 5 : 267 و 6 : 144 ، سير أعلام النبلاء 3 : 495 ، الاصابة 3 : 43 . (26) لعله رحمه الله تعالى يقصد بهما أبا بكر وعمر ، ولكن لم ادرك وجه تخصيصهما بذلك ، فتأمَل . (27) نثر الدر 1 :5 ، 3. (28) اُنظر: ربيع الابرار1: 90 ، 92، 807 ، 835 و 2: 693 ، 720 و3: 77 ، 0 8 و 4 : 239و242 . (29) مقاتل الطالبيين : 73 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي 16: 49 ، الاستيعاب بهامش الاصابة 1 : 375 ، مروج الذهب 3: 182|1760 . (30) قد يكتفي البعض بمقولة معاوية بن هند في مسجد الكوفة من أن كلَّ العهود والمواثيق ـ التي أبرمها وتعهَد للامام الحسن عليه السلام بالوفاء بها ، وأشهد على نفسه في ذلك الشهود ـ تحت قدميه لا يفي منها بشيء ، إلاّ أن استقراء سيرة معاوية وافعاله بعد ذلك الصلح خير شاهد على هذا النقض والتنصل عما عاهد الله تعالى عليه لأن يفي به . بلى ، فقد عاهد الامام الحسن عليه السلام بأن تكون الخلافة له بعد موته ، واذا توفي الامام الحسن عليه السلام قبله فإنَ الخلافة تكون للامام الحسين عليه السلام بعد هلاك معاوية ، بيد أنَّه ( أي معاوية ) جهد على استحصال البيعة لولده يزيد الفاجر بشتى الوسائل والذرائع بعد وفاة الامام الحسن عليه السلام ، حين كان قد تحايل في التمهيد لاذاعة هذا الامر في حياة الامام الحسن عليه السلام على ما تذكره المراجع المختلفة . ثم إنَ معاوية تعهَد للامام الحسن عليه السلام بالكف عن مطاردة شيعته وحقن دمائهم ، لكنه لم يترك وجهاً من أصحاب الامام عليه السلام وشيعته إلاّ ونكل به أو قتله . بل ونقض ما تعهَد به من رفع السنة السيئة التي ابتدعها بسب الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام على المنابر ، ولكنًه هلك وهلك الذين بعده وهم على هذه الفعلة النكرة دائمون ، حتى نهى عنها عمر بن عبدالعزيز من بعد. واخيراً فقد تعهَد بأن يحكم بما في القرآن وما جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله ، ولكنه . . . وكما قيل شتان بين مشرق ومغرب . راجع ما شئت من كتب التأريخ التي تحدَّثت عن هذه الواقعة ، واحكم بما يمليه عليك دينك وعقلك . (31) ربيع الابرار 1 : 90 . (32) تراجع كتب الفضائل المختلفة ، فقد استفاضت بايراد الكثير من الروايات الصحيحة الدالة على عظيم منزلة الحسنين عليهما السلام . (33) راجع كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد ابي القاسم الخوئي رحمه الله : 500 ، فقد أورد فيه مبحثاً شافياً حول هذا الموضوع ، موثقاً بالادلة الواضحة والصريحة . (34) ربيع الابرار 1 : 494 . (35) ينقسم الامويون إلى بطنين كبيرين ، هما : العنابسة ، والاعياص . فالعنابسة يعودون بنسبهم إلى عنبسة عم أبي سفيان بن حرب ، ومنه كل سرت تسميته عليهم ، فأًسموا بالسفيانيين . وأمّا الاعياص فيعودون بنسبهم إلى رجل يقال له : العيص ، أو العويص ، أو العاص ، أو أبا العاص ، والذي من أبنائه الحكم ، طريد رسول الله صلى الله عليه وآله ، هو وابنه مروان سيء الذكر. فالسفيانيون كانوا هم الذين امتطوا اول ألامر ناصية الدولة الاسلامية في عهد معاوية بن أبي سفيان عام ( 41 هـ ) وحيث امتدت دولتهم حتى نهاية حكم معاوية الثاني وتسلُم مراون ابن الحكم زمام الامور عام ( 64 هـ ) ليُقيم بعد ذلك ما أسمي بالدولة المروانية ، خلفاً للسفيانيين ، فشابه الخلف السلف . (36) روت المصادر التأريخية : أنَّه بعد أنْ خالف عمرو بن سعيد عبدالملك وغلبه على دمشق في سنة تسع وستين هجرية ، حصل بين الاثنين قتال استمر أياماً ، ثم عقدا بينهما صلحاً ، وكتبا بذلك كتاباً ، وآمن عبدالملك عمرواً وأعطاه على ذلك العهود ، إلاّ أنَ عبدالملك لم يلبث أنْ نقض عهده ، وضرب عرض الحائط بوعوده ، وخان ـ وليست الخيانة الاّ خصلة متواضعة من خصالهم ـ بعمرو ، حيث أرسل اليه بعد اربعة أيام من دخوله دمشق مستضيفاً إياه ، ومرحبأ به اشد الترحيب ، فوثق به عمرو ، واطمأن اليه ، إلاّ أن عبدالملك لم ان يلبث أن قتله قتلة بشعة ، بعد أن احتال عليه بحيل ماكرة . انظر : تاريخ الطبري 6 : 140 ، الكامل في التاريخ 4 : 297 ، مروج الذهب 3 : 304 ، العقد الفريد 155:5 . (37) ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ( صفحة 277 ) وغيره : أن في سنة ست وثلاثين هجرية أمر المتوكل لعنه الله تعالى بهدم قبر الامام الحسين عليه السلام ، وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل مزارع . ومنع الناس من زيارته ، وخرب وبقي صحراء . وكان المتوكل معروفاً بالتعصب ، فتأمل المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك . . . وأورد الابيات المذكورة . (38) راجع رجال النجاشي : 40|80 . (39) تعد هذه القصيدة من روائع هذا الشاعر المبدع المتوفى سنة (357 هـ) ، ومنها : الحـق مهتضم والدين مخترم * وفـيء رسـول الله مقتسم والناس عندك لاناس فيحفظهم * سوم الرعاة ولاشاء ولا نعم إني أبيت قليل النوم أرقـنــي * قلب تصارع فيه الهم والـهـمـم يا للـرجال أما لله مـنـتـصر * من الطـغـاة ؟ أما لله منـتـقم ؟ بنو عـلـي رعـايا في ديارهم * والامـر تملكه الـنـسوان والخدم محـلـئون فاصفى شربهم وشل * عنـد الـورود وأوفى ودهم لمم أتفخرون عليهم لا أبـاً لـكــم * حـتـى كأن رسول الله جدكم ! ولا تـوازن فـيـما بينكم شرف * ولا تساوت لكـم في موطن قدم بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أباهـم العلم الهـادي وأمـهـم يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم * لمعشـر بيعهم يوم الهـيـاج دم الركـن والبيت والاستار منزلهم * وزمزم والصفا والحجر والحرم (40) راجع ترجمتنا له في التراجم الملحقة بالكتاب . اصل الشيعة واصولها نشأة التشيع

طباعة   البريد الإلكتروني